كما انقضت سنوات وتجارة لوكربي، لعبة موفقة مربحة فعالة بيد الولايات المتحدة، وبريطانيا، والضمير المستتر، تقديره هي »عائد على اسرائيل« المبني على الرفع بدعم هذا الغرب المهود.
ثمة لعبة جديدة، مؤلمة حد النخاع، هذه المرة، اسمها طائرة الخطوط الجوية المصرية.
مؤلمة.. لا لان معظم الضحايا الذين سقطوا معها من العرب، فكل روح بشرية في هذا العالم غالية، وتستحق الحياة.
لا لأن نوع العسكريين والعلماء المصريين الذين قضوا فيها، وعددهم، قد يفوق، في قيمته ما كان يمكن ان تخسره مصر في حرب مماثلة لحربي حزيران واكتوبر… فهي ليست مجرد خسارة ارواح، وانما خسارة كوادر نادرة، في بنيتها العلمية وتأهيلها.
واذا كان هذا الواقع هو ما بدا اكثر ايلاما في البداية، وربما اكثر دلالة على من يمكن ان يقف وراء الحادث. فان ما اصبح الآن يتجاوزه تجريحا وايلاما هو محاولات التشويه المستمرة، التي تلصق بشخصية قائد الطائرة، لتأكيد فكرة الانتحار.
بدءا من تصويره كاصولي اسلامي متطرف اقدم على العمل بدوافع ارهابية، انتقالا الى تصويره رجلا مختلا نفسيا، واخيرا، رجلا يقوم بتصرفات مشينة في الفندق.
اتهامات لم تجهد نفسها في الاعتماد على اي حجج مقنعة او حتى قيمة:
توضع عبارات على لسان الطيار، ثم يثبت انها تلفيق لا وجود له، فيتراجع عنها المحققون والاعلام… وتبقى عبارة: »توكلت على الله«… فهل هناك اكثر سذاجة، او وقاحة، من اعتبار: توكلت على الله، مقدمة عملية انتحارية؟… اذن لما بقي من هذه المئات الملايين العربية الا بضع عشرات.
وتخرج وسائل الاعلام، حتى الاوروبية المحايدة، بلقاءات مع اسرة الطيار، ووثائق عنه تثبت انه كان رجلا مستقيما، محبا للحياة، سعيدا في بيته واسرته، متدينا ولكن دون اية اصولية ارهابية.
»وفي هذا ما يجعله اكثر اخلاصا لعمله، واكثر احتراما للارواح البشرية التي يحمل مسؤوليتها«.. فتتراجع الاتهامات الى انه »كان يقوم باعمال مشينة«.
مضحك مؤلم هذا التعبير… فهل ان كل من يقوم باعمال مشينة يقدم على الانتحار؟
علميا، بعد مراحل من التحقيق، يكتشف الفريق المصري، ان الاميركيين لم يستخرجوا كل اجزاء الطائرة، بل وتتردد انباء عن تلاعب بالصندوق الاسود قبل تسليمه الى المحققين.
وينام الموضوع، وكأنه قبع في صندوق بنك التهويل الامريكي، الى حين الحاجة.
وتبرز الحاجة الآن.. الحاجة الى الضغط على مصر… الى اشهار الوسائل الموجودة بحوزة »الراعي الامريكي« لتفعيل الضغط، فمصر ما تزال مصرة على انها »دولة«، في عالم عربي لا يسمح فيه الا بالمحميات. الى جانب »الدولة« التي يطلب من الجميع ان ينسوا انها مغتصبة، ومفتعلة، وان يتحول عداؤهم معها لا الى سلم، بل الى حب ملهوف..
ومصر لا تعبر عن هذا الحب الملهوف، رغم مرور ربع قرن على توقيع الورق.
مصر الشعب، لا يعني لها هذا الورق شيئا، ولم تصب بفقدان الذاكرة، ولا بمرض الامر الواقع. وتعرف ببساطة مصرية ان تترك الورق لقيصر، وشراء علبة البيض، او حظر سفر لاعب الكرة الى اسرائيل، وموقف الفنانين، وانتاج الاقلام للناس، الذين لم يقعوا في غرام العدو.
اما مصر الحكم، فرغم ارتباطها بكل الورق.. الا انها لا تضغط بما فيه الكفاية على ناسها. لا تستعديهم، وتسوقهم رغما عنهم الى بيت الطاعة السداسي النجمة.
ومصر.. هذه.. بكلها.. ما تزال مصرة على ان تلعب دورا عربيا، ان تدعم احيانا الموقف السوري او الفلسطيني، بما لا يتوافق مع التوجيهات الامريكية »الاسرائيلية«.
اما الحدث الساخن الآن، فهو الرهان الكبير: »الحل النهائي« والنهاية لا تكون الا بالقدس.. باللاجئين، وبما شكل نقطة الخلاف الجوهرية في كامب ديفيد الاخير: ان يوقع عرفات على انهاء الصراع بشكل نهائي وقاطع. كي لا تظل ثمة عودة لأي ملف.
الحاضر مضمون، ولا خوف منه، لكن المستقبل هو ما يظل بيد الله، وطاقات الشعوب.. لذلك هو مصدر الخوف لهم.. والامل لنا.. والمطلوب من مصر ان تساهم في اجهاض حمله. والا…