حصار!

العراق، 20-08-2000

في تحليل لاحد دوافع التمسك بابقاء الحصار على العراق، قال جان بيير شفينمان قبل ثماني سنوات، انه لا يتوقع الا وان يكون عمر الحصار طويلا، وذلك بناء على مبدأ يقول بان حجم العقوبة يحدد حجم الجريمة، واذا قبل الخصم بعقوبة قصيرة او بسيطة فمعنى ذلك اعترافه بان الجريمة كانت كذلك.. وهذا ما يعني، بشكل اخطر الاعتراف بان الحرب الشرسة لم تكن عادلة، وان قرارها كان ظالما.

في قراءة اخرى، لوجه ثان، من وجوه هذه المعادلة المنطقية جدا.. يبدو واضحا ان انتهاء حالة الهزيمة والحصار، يفتح المجال لمراجعة رواية الحرب، وكشف الجرائم والاكاذيب التي تنسج حولها. فالتاريخ يكتبه المنتصر، كما هو معروف، يصوغه وربما يؤلفه.

الم يكتب الحلفاء المنتصرون في الحربين العالميتين قصتها، بحيث اختفى من تلك القصة كليا ان اللجوء الى استعمال الغاز للابادة لم يكن اختراعا هتلريا، بل ان اول من استعمله هم الانكليز في الحرب العالمية الاولى، وان هتلر نفسه، الذي كان جنديا في تلك الحرب قد اصيب بالغاز وظل يعالج لمدة ثلاث سنوات من ذلك؟

الم تخف الرواية التاريخية للحرب الثانية ايضا اوامر تشرشل والاميركيين من بعده بابادة الالمان، ومنها الامر الخطي الموجه الى الجيش بالتحضير لاستعمال سلاح الغازات السامة وذلك تحت شعار: »الالمان الجيدون هم الالمان الموتى فقط«.

الم ترسخ تلك الرواية قصة الستة ملايين ضحية يهودي، لتأتي الدراسات العلمية التاريخية فتبرهن ان الرقم اكذوبة، وقصة افران الغاز كلها اكذوبة، وتأويل »الحل النهائي« على انه يعني الابادة، اكذوبة، لانه واضح في الوثائق الالمانية انه يعني التهجير.

الم ترسخ محكمة نورنمبرغ ان مذبحة كاثين المشهورة في بولونيا، جريمة هتلرية، ليأتي انهيار الجدار الفولاذي الشيوعي، ويكشف انها جريمة ستالينية وبامر قائد عسكري يهودي؟

هكذا يكون لبقاء حصار المنتصر على المهزوم، في اية حرب، وايا يكن شكل هذا الحصار، هدف هام ـ من جملة اهداف ـ هو هدف احكام الحصار على الرواية التاريخية الحقيقية، كي لا تشوش رواية المنتصر الكاذبة، وتكون الحرب بين الرواية المفروضة والرواية الحقيقية الاستمرارية الطبيعية للحرب العسكرية، وهي استمرار ذو علاقة وثيقة، بالاهداف السياسية والاقتصادية والحضارية التي لم تكن الحرب العسكرية الا جرافة تحرث الارض وتمهدها لها.

ملاحظات كثيرة يعيدها الى الذهن تحليل الاحداث المتعلقة بالعراق بعد عشر سنوات من الحصار، ويدفعها الى مقدمة المشهد ـ والشيء بالشيء يذكر ـ تصريح بالغ الاهمية صدر عن الزعيم النمساوي جورج هايدر قبل يومين، يكشف النقاب عن واقعتين تاريخيتين رهيبتين متعلقتين بالحرب العالمية الثانية في اوروبا، وهما مجموعة مراسيم صادرة عن سلوفانيا وتشيكيا خلال تلك الحرب: مراسيم »افنوي« التي امرت يوغوسلافيا بموجبها عام 1943 بطرد الاقليات الالمانية، ومثلها تماما مراسيم »بينيس« الصادرة عن تشيكوسلوفاكيا عام ،1945 حيث طرد بموجب هذه الاخيرة فقط ثلاثة ملايين الماني، مات عشرة بالمئة منهم في العراء، قبل ان يلجأ الباقون الى النمسا.

الغريب اكثر، في هذا الكشف ان هذه المراسيم لم تلغ حتى الآن، حيث قال هايدر »انه من غير المفهوم ان تبقى مراسيم تكفل قتل الالماني لمجرد كونه المانيا قائمة في اوروبا الحديثة«.

الا يشكل هذا السلوك الهايدري احد اسباب الحملة المستشرسة المرعوبة التي واجهت نجاح حزب الحرية.. الرعب من ازاحة الستارة التي صممت واحكم تنفيذها طوال خمسين عاما؟

والجواب يكمن في عبارة قالها هايدر تعليقا على ذلك:

»لمصلحة تطور اوروبا حرة ومسالمة من الضروري تحمل المسؤوليات عن عملية الطرد المرعبة ومسيرات الموت والتطهير العرقي التي يريد كثيرون محوها من كتب التاريخ«.

اذ اننا اذا تركنا هذه العبارة بدون اي تقديم او توقيع لما فهم منها اي قارىء الا انها تتعلق بموت اليهود في الحرب الثانية.. لذلك فان معناها الخطير هو ان هناك طردا وموتا وتطهيرا عرقيا، قد مورس بحق الالمان لا اليهود…

وان الاعتراف بهذه كلها ضمانة لاوروبا حرة ومسالمة.. وهنا ايضا يستعمل هايدر الشعار الذي اعتاد اليهود والحلفاء استعماله..

يسحب البساط.

يكسر الحصار

فمن لنا نحن بزعيم يكسر الحصار.. حصارنا..

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون