واحد من الجوانب الهامة التي طرحت في ندوة مجمع النقابات ضد التطبيع، هو ذلك الذي لم يقتصر على النقاش السياسي الفوقي البحت، وانما تعداه الى طبقات تحتية، جوانية ترتبط بالسيكولوجية الجمعية، التي تشكل الوعي الجمعي الكامن وراء المواقف والاراء، بل والذي يمليها.
ففي ورقته حول كون الصهيونية خطرا على الانسانية لا على العرب فحسب، تناول المفكر الفرنسي بيير غييوم، المداخل السيكولوجية التي تسلكها الصهيونية للسيطرة الكاملة على الضمير الغربي، وخاصة المدخل المتمثل في تهويد المسيحية، او باستغلال فكرة الضحية القائمة في اساس الوعي المسيحية، استغلالا يقوم على جعل اليهود هم الضحية التي تأخذ مكان المسيح المصلوب، مما يؤدي ليس فقط الى استحقاق التكفير عن الجريمة، بكل الوسائل، وانما الى اضفاء خصوصية على عذاباتهم تحظر ادراجها ضمن العذابات الانسانية بعامة، وتمنحها بذلك، ميزة تبرير اية عذابات يسببونها هم للآخرين.
كما يجعل منها تابوها مقدسا يعلو فوق كل قيم العقل النقدي العلمي، الذي يقع في اساس التطور الحضاري الانساني. حيث ان تحريم تناول الادعاءات اليهودية بالمناقشة العلمية المحضة، بل وحتى تحريم طرح الاسئلة حولها، يجعل الانسان الغربي امام مقدس، دين، جديد، لا يكتسب صفته هذه من كونه رسالة سماوية تقيم نظاما اخلاقيا قيميا لجميع البشر، وانما يكتسب هذه الصفة من مصدرين: مصدر اسطوري تاريخي يتعلق اما بالاساطير القديمة المؤسسة للصهيونية ولدولة اسرائيل، مبررة اغتصاب ارض وتهجير شعب واضطهاده وسلب حقوقه، واما بالاساطير الحديثة المتعلقة بقضية الهولوكوست بشكل خاص. وهما قضيتان »والثانية منهما على الاخص« لا تخرجان عن اطار حدث تاريخي مادي بنيت عليه اساطير غير حقيقية، ثم فرضت كحقائق، واقيم القمع لاقرارها ومنع مراجعتها.
واذا كان هذا التحول في منع العقل من مقاربة حدث مادي بشري تاريخي، ضربة للعقل النقدي الانساني، مضافا الى ترسيخ عقدة الضحية والتكفير، يؤسسان للهيمنة الصهيونية اليهودية على العالم، تأسيسا سيكولوجيا خطيرا.
فان تشكل السيكولوجية الاستهلاكية، بقيمها المادية البحتة، ووضع »اله السوق« فوق جميع القيم الانسانية، هي الجانب الآخر الذي حللته ورقة الاستاذ منير شفيق، الذي اوضح كيف انه لا يمكن مقاومة التطبيع، ومقاومة الهيمنة الاسرائيلية، بل والحفاظ على الذات، دون مقاومة سيكولوجية قيمية جديدة تحل معايير جديدة، فردية، مادية، متنكرة محل القيم التي تشكل العمود الفقري الضروري لاية حالة مقاومة، ايا يكن معنى المقاومة او شكلها او ساحتها.
مما يطرح قضية اساسية هي ضرورة تذويب الشعار السياسي كليا وتحويله الى حس تلقائي قادر على الانسياب في شرايين الوعي العام وبالتالي الفردي ليتحول تلقائيا الى سلوكيات ومواقف.
ضرورة تطرح مشكلتين انفصاميتين قائمتين في الواقع السياسي:
مشكلة الانفصام بين الطبقة السياسية، »حتى تلك التي تتمتع بالوعي النضالي الملتزم« وبين القاعدة الشعبية، التي لا معنى للمقاومة الا بها، فمن الذي سيقاوم على الارض؟ اهم مجرد بضع عشرات يتقنون التحليل والمناقشة؟ ويملكون ترف الوقت والامكانيات للاجتماع في ندوات او دراسات؟
دون ان يعني هذا التساؤل اي انتقاص من دور هؤلاء، وضرورة عملهم.. ولكن اذا كان الجيش يحتاج الى ضباط، فان الضباط بلا جيش امر عبثي«.
ومشكلة الانفصام بين الجدل العلمي، والتحليل، والشعار، وبين المواقف التطبيقية البسيطة في السلوك اليومي، فيما نشتريه، فيما نأكله، ما نلبسه، ما نتعامل معه، في علاقاتنا بالآخرين، خاصة دعمنا لمن يقف مناهضا، وسحب التعامل مع من يتراخى ويزحف.
كل ذلك، ما لا يتأسس الا على حالة نفسية عامة، لا بد من خلقها لتخلق هي بدورها حالة صلابة ومقاومة. في عملية تبادلية نشطة. بدونها يظل الكلام السياسي، على كل اهميته، قواعد مستوية على رف الكلام والنظري، في صراع يدور على الارض.