الرجل يرمي بجسده في سيارة التاكسي متعبا.. ثمة ضيق يثقله يحتاج ان يشرك به اي شخص، حتى السائق: استاذ للغة العربية، خارج من تصحيح امتحان التوجيهي، الوزارة اعدت اجابة نموذجية، وفرضت على المصححين التقيد بها حرفيا، وتقييم العلامة على اساسها.
الاستاذ يجد ان من الطلاب من اجاب بطريقة مختلفة، لكنها افضل، وتستحق تقييما اعلى، والوزارة تصر على اعتماد اجابتها.. والامتثال يعني حربا مع الضمير.
يعيدني ذلك الى خمس عشرة سنة قضيتها في هذه الحرب المرة مع منهاجنا التعليمي، وفي مادة اللغة العربية بالذات، او بالاحرى مع منهاجنا الفكري البليد، الذي لا يؤدي الا الى خلق واحد من اثنين: اما ممتثل يفقده امتثاله حس الابداع والمبادرة، وقدرة الوعي والتحليل والمحاكمة، ويحوله الى متلق نمطي بليد.. واما متمرد لا يلبث ان يصطدم تمرده اولا ببلادة المناهج، وثانيا ببلادة بعض الاساتذة والادارات وصولا الى الوزارة، وثالثا بسيف التوجيهي المسلط على رؤوس الطلاب، حدا قاطعا بينهم وبين المستقبل، طالما ان نتائجه هي معيار القبول في الجامعات، في بلد هو البلد العربي الوحيد الذي لا يملك جامعة مجانية.
حدا تجهد في »سنه« وتلميعه معايير اجتماعية وثقافية، لا تقل بلاهة، وبلادة، تجعل من الرقم الذي يخرج به الطالب من هذا الامتحان، تقييما، ليس له فقط، لذكائه لموقعه، لوجوده الانساني، بل ولاهله واسرته ايضا.
عشرون سنة، وانا اعايش هذه المجزرة السنوية: مدرسة واما ومن ثم مراقبة.. وربما عايشها سواي اكثر… وفي كل سنة تتكرر عملية التعذيب التي لا يسقط فيها الطالب وحده، وانما اسرته كلها معه.
وفي كل سنة نتحدث عن التغيير، دون ان يتغير شيء، لكأن صفير قطار التغيير والتطور الذي يمر بالانسانية يعجز عن اختراق آذاننا، او غفوتنا، التي اذا ما فتحنا عيوننا لحظة عند توقفه في محظتنا، عدنا بسرعة الى الاستسلام لها، ليسقط الرأس على الكتف ويمضي القطار بمن يركبه.
القضية ابعد من مجرد ازمة، وامتحانات، انها قضية تتلخص في: القولبة، والتنميط، في تعطيل العقل، في قتل المبادرة والابداع وتكريس التلقي المستسلم البليد.. ليتحول الناس الى شخصيات ميكانيكية اشبه بشخصيات مسرح يونسكو، او مسرح لاتروبا التشيلي، (حيث يتحرك الجميع على المسرح بملامح متشابهة واقنعة باهتة بلهاء، ويتشدقون بأفواه ممطوطة، وفق ايقاع متشابه دون ان يصلوا الى تكوين كلمة واحدة، ودون ان يقطع الخرس، الا صوت محدد يأتي من خلفية المسرح من آن لآخر، فيردده بعضهم بآلية).
طالما عايشت عملية حب طلابنا في القالب الموحد، طيلة سنوات الدراسة، طالما خضت معهم، وضدهم احيانا معركة كسر القالب، او خلع الزي الموحد، طالما تأذت يداي في اخراج عقولهم من الثلاجة المجمدة، في تحريك قدرات التحليل والاستنتاج والمحاكمة واتخاذ الموقف وتكوين الرأي وصولا الى المبادرة والابداع. طالما عملت وبصعوبة بالغة على تكسير اشرطة التسجيل التي ثبتت في رؤوسهم، واحتفظ الآخر بمفتاحها، او بالريموت كونترول المحرك لها.
وطالما شهدت نتيجة ذلك معاناة مزدوجة: معاناة الاساتذة الذين لا يريدون الانصياع لدور الديكتاتور الفكري، ومعاناة الطلاب الذين يستجيبون بألق وتفتح لعملية الاحياء العقلية هذه.
وطالما كانت هذه المعركة الجميلة تصطدم بحدين قاطعين على الصعيد المدرسي: تراكم الصدأ الناتج عن سنوات المرحلة الابتدائية والمتوسطة، ومجزرة التوجيهي، التي تقف لهم بالمرصاد، فالى متى؟