غريب ان يكون هذا الغرب المغمض تماما عن موتنا البربري، بل عن قتلنا البربري منذ قرن كامل، قد فتح عينيه فجأة، لا ليرى مأساة فلسطين، لا ليرى جوع السودان، لا ليرى تدمير العراق وحصاره، لا ليرى ربع قرن من الحرق والموت اليومي في لبنان جنوبه، وكله… بل ليرى فقط بضع حالات »انسانية« لنساء يقتلن باسم جريمة الشرف، او يسجن لاسباب اخلاقية.
فان يحتل نشرة الاخبار الرئيسية ظهرا، في اذاعة البي.بي.سي، خبر عن الاردن، يقول ان السجينات الاردنيات بتهم اخلاقية يفضلن البقاء في السجن خوفا من انتقام العائلة لدى خروجهن. امر يذكرني بحادث اعلامي آخر لا يقل غرابة، يوم كنا نقيم الاسبوع الثقافي الاردني في معهد العالم العربي في باريس على هامش زيارة جلالة الملك عبدالله.. يومها، نشرت جريدة ليبراسيون خبر زيارة الملك ضمن اطار مربع صغير، وعلى عامود واحد، ضمن صفحة عن الاردن… اما مضمون الصفحة كلها، فقصة بارعة الصياغة عن جرائم الشرف في الاردن، لا يخرج قارئها الا بتصور ان هذا البلد غابة من التخلف والبربرية، واذكر تماما كيف بدأ التقرير بمدخل قصصي: (فتاة تسير في الشارع… رجل يقترب منها، يشهر سكينا… الجثة ملقاة في الشارع مغطاة بحرام، والمارة يعبرون في حركتهم العادية دون ان يعيروها اي اهتمام..).
في هذه الجملة الاخيرة، عقدة اخيل الاعلامية، اذ ان لا مبالاة المارة، تعني للقارىء لا شعوريا، بأن هؤلاء الناس معتادون على هذا المنظر، لكأنه حدث يومي في حياتهم، وانهم متبلدو الحس والشعور فاقدو الانسانية.
ما من عاقل تجاوز متوسط الادراك والوعي، وما من انسان بلغ متوسط الحضارة الا ويعترض على ظاهره جرائم الشرف، والظروف الانسانية المرة الكامنة وراء اوضاع السجينات بتهم اخلاقية، وما من كاتبة او اعلامية عربية، اضافة الى عدد من الاعلاميين الا وشكل هذا الموضوع، منذ الخمسينات على الاقل (خاصة في السبعينات، مع رواية غادة السمان: بيروت 75) واحدا من اهتماماته وشغل حيزا من عمله.
فلماذا الآن؟
ولماذا التركيز على الاردن، وكأنه وحده غابة الوحوش الذكورية؟
لماذا لم يفعل الموضوع، الا بعد نشر موضوع عنه باللغة الانكليزية، ليحصل الموضوع اتوماتيكيا على جائزة (وقبله مئات مثله)، وليقال بوقاحة ومصادرة: انها المرة الاولى التي تطرح فيها القضية، ولتتحرك بالتالي آلة الاستغلال الاعلامي الغربي اليهودي الباحثة دائما عن مدخل لتشويه صورتنا، عن مسمار تدقه في نعش صورتنا الحضارية؟
صحيح ان هذا الموضوع يستحق المعالجة، ولكن ما هم الغرب، الذي لم يوفر وسيلة تحطم اي سلم للارتقاء والتقدم تحت رجيلنا، في »تطويرنا« و»تحضيرنا« الآن؟
كيف يقفز هذا الخبر الى نشرة اخبار سياسية في محطة رئيسية؟
اللهم الا ليقول للذين لم يفهموا بعد ان الهدف من هذه الضجة ليس الا هدفا سياسيا.
والا فليلتفت هذا الغرب الى مدمنيه، الى مهمشيه الذين سأتناول في مقال الغد زيارتي لهم في المانيا، الى نسائه المستغلات جنسيا وانسانيا، الى شبابه الذين تزداد بينهم نسب الانتحار بسرعة تطور اكتشافات الفضاء..
واذا اراد الالتفات الينا، فليرفع يده عن ثرواتنا، ليترك عبوة الحليب، وقنينة الدواء والقلم والورقة وادوات المختبر تمر الى اطفال العراق.
اما نحن فلنتعلم درسين:
الا نطبل ونزمر لكل عمل يرتدي عباءة الاعلام او العمل التطوعي او البحثي دون ان ندقق في ابعاد دوره ضمن خطة الاساءة الينا.
وان نعمل فعلا، ومن داخل، على معالجة مظاهر تخلفنا، وبربريتنا، كي لا تظل واقعا حقيقيا يستغله الآخرون للاساءة الينا، في كلمة حق يراد بها باطل.