من سياتل، الى دافوس، الى ميلو، يتحول المزارع الفرنسي جوزيه بوفيه الى رمز لمقاومة العولمة الامريكية.
في فرنسا تلاحظ انه تحول لدى الناس الى رمز وطني..
لانه يمثل، حتى بشكله الخارجي نموذجا للفرنسي التقليدي، المزارع – الراعي، المتمرد حتى النزق احيانا، ما يسميه بعضهم: صورة الغولي.
او لانه كما يقول اكثر الناس يقاتل لاجل شعارات يتبنونها جميعا وضد مخاطر يرفضونها جميعا: التنميط العولمي الذي يطلقون عليه هناك لقب: الزي الموحد المفتعل الذي تريد العولمة فرضه على العالم دون احترام الخصوصيات، الزراعة الكيماوية، التي تحول المنتج الزراعي الى منتج صناعي بالدرجة الاولى، فاقد اللون والطعم والرائحة والفائدة، الطعام السيىء المعلب والمحفوظ والجاهز الذي يحمل من الضرر اكثر مما يحمل من الفائدة، تهديد فرص عمل المزارعين والعاملين، الصحة العامة، والبيئة.
واذا كان اسم هذا القائد النقابي الزراعي قد برز منذ قيادته لمظاهرات سياتل، ومن ثم مظاهرات دافوس (التي حاول الاعلام ان يعتم عليها، رغم ان مواجهتها كانت اكثر عنفا)، الى ان شغلت هذا الاعلام، في الاسابيع الاخيرة محاكمته بتهمة تكسير احد مطاعم ماكدونالد في فرنسا، فان الواقع الذي نبت منه هذا الرجل يعود الى ابعد من ذلك، ويوضح قضايا اساسية تتعلق بالعولمة، وبمنظمة التجارة العالمية، قضايا لا تخص فرنسا وحدها، بل اوروبا كلها، ومن ثم العالم.
فقبل ثلاثين سنة كان منحدر لازار في جنوب فرنسا المتوسطي، آيلا للتصحر، لكن مجموعة من المزارعين، مربي الماشية تمكنوا من اعادة احيائه، وتأمين حياتهم فيه، بدخل شهري لا يقل عن سبعة الاف فرنك للفرد، من خلال بيع الحليب وحده، لشركة (روكفور)، التي اصبحت تشكل اتحادا يشترك فيه المزارعون ويضمن حياة خمسة الاف اسرة تنضم ايضا ضمن اطار »نقابة منتجي الحليب«.
هؤلاء رأوا – ومعهم جميع مزارعي فرنسا – في اتفاقات منظمة التجارة الدولية خطرا على اقتصادهم الزراعي.. فقادوا التمرد.. ولم يطل الامر ليتحقق خوفهم، اذ فرضت الولايات المتحدة الامريكية ضريبة اضافية على منتجات الاجبان الفرنسية، ومنها منتجات شركة (روكفور)، مصدر عيشهم.. فعبروا عن احتجاجهم بتكسير مطعم ماكدونالدز..
واشنطن اتخذت قرار الضريبة الاضافية، ردا على قرار المجموعة الاوروبية بمنع استيراد اللحم الامريكي (المهرمن).
اذن هي – وببساطة – الحرب الاقتصادية الاوروبية الامريكية، حرب كثيرا ما تعجز السلطات السياسية الاوروبية عن التصدي لها، لارتباطات معينة، فيبادر المواطنون البسطاء الى الدفاع عن لقمة عيشهم.
وفي بعد اعمق، هي رد الناس العفوي على قولبة العولمة، التي تدعي ان مجنزرة السوق قادرة على الغاء جميع الخصوصيات القومية الثقافية.
رد لا يتبدى فقط في حركة آنية: مظاهرة، او هجوم على مطعم لمؤسسة امريكية باتت تمتلك ثمانمائة فرع في فرنسا وحدها، وتمثل رمزا للعولمة، وانما يتبدى بشكل اعمق في نزوع واضح لدى الناس الى العودة الى جميع مظاهر الحياة التقليدية، تلك التي تشكل الخصوصية الثقافية والحضارية، ومنها بشكل خاص المطبخ، وتقاليد الطعام والمائدة المرتبطة بمصادر الغذاء ونمط الحياة، ومستوى رقيها الروحي لا المادي فقط.. في تجل بسيط لما نسميه تعقيدا: الاقتصاد والثقافة.
هذان اللذان يردان عبر الناس، وعمليا على استحالة صب عالم متعدد متنوع، في قالب نمطي واحد، حتى ولو كانت قوة الصب، قوة روما القرن العشرين.