يومها رد الزميل جورج حداد على احد هؤلاء بقوله: لاننا نحن المسيحيون الحقيقيون، لا هم..
وعندما نهاجم الحملة المسعورة على الوجود السوري في لبنان، يبدو البعض منافقا وهو يتهمنا باننا لا نحب لبنان.. ويسألني زميل: هل يمكن ان تكوني لبنانية حقيقية، ولا تطالبي مع امين الجميل بخروج سوريا من بلادكم؟
ولاننا لبنانيون حقيقيون، لا يمكن ان يكون لنا موقف مشترك مع امين الجميل.
فما الذي اراده هذا الابن البار بأبيه وبأخيه من لبنان؟
وما الذي يريده الان؟
اوليس من نهاية لحمام السم الذي تصر افعى الطائفية الانعزالية على رشّنا به..
هل يريدون اعادتنا الى اتفاق 17 ايار ام الى السبت الاسود، ام الى حواجز الموت على الهوية؟ ام الى مصادرة البيوت والاملاك، وقوافل المهجرين، وجرف القرى بالجرافات؟
لن نتحدث حديث القومية النظرية الايديولوجية، الذي اصبح الكثيرون عاجزين عن هضمه، بل سنذكّر بامر بسيط يعرفه كل واحد من شعب الاكل باليد، وبالخبز، ما نسميه هنا بـ »التغميس« ويسمونه في لبنان بـ »التلقيم« (من اللقمة): سنذكر بان التهام الرغيف كاملا، بحشوه كاملا امر مستحيل، يعلق في الحلق، ويخنق الجشع الغبي، اما الجشع الذكي فيقوم بـ »التقسيم«، ويحشو كل لقمة بماتتسع له، الى ان يمسح بالاخيرة قاع الطبق.
الجشع الاسرائيلي ذكي وخبيث، ورغيفنا كبير، وطبقنا اكبر.. الجشع الاسرائيلي يعرف اصول الاكل بالتغميس التي تعلمها من شرقييه، ويعرف تماما اصول الاكل المشابه بالشوكة والسكين التي حملها معه من غربه.. ويعرف كيف يجعلهما وسيلته للوصول الى حلم الشرق اوسطية، الهدف الاول للسلام.
نتحدث اذن كلام المصالح لا العواطف القومية هذه المرة، ونعرف اية لقمة صغيرة يصبحها لبنان بدون سوريا وتصبحها، وان بدرجة اقل سوريا بدون لبنان.. ونعرف ان مواجهة ما بعد السلام تحتاج صيغة اتحادية ما، اكثر مما احتاجته مرحلة ما قبله: مرحلة الحرب الاسرائيلية التي لم تكن الحرب الاهلية اللبنانية الا احد تجلياتها، شكلا مقنعا من اشكالها.
نعرف ان في ادارة الوجود السوري في لبنان اخطاءا كثيرة، ولكن هل يجوز رمي الطفل مع ماء الحمام؟
هل يجوز سفح القرار الستراتيجي التاريخي الوجودي، على مذبح اخطاء مرحلية سلوكية؟
وهل يمكن مقارنة هذه الاخطاء بأي شكل من الاشكال، بجريمة اولئك الذين قذفوا لبنان في اتون التشريح والدم والموت طيلة عقدين؟
وهل نترك اسرائيل تخرج من الجنوب هربا من رعب ابطالنا المقاومين، لتعود من المتن والشمال، عبر مرضى الطائفية والانعزال؟
هل نتركها تنتقم من شهدائنا هناك بتحريك عملائها هنا؟
ويحملنا هذا السياق الى تساؤل ذاهل: كيف يجرؤ هؤلاء على الحديث عن الانسحاب من الجنوب، فأي فضل كان لهم فيه؟
الانسحاب هو ثمرة دماء، لمن وقف في صفها مذ كان الصراع مع اسرائيل، ان يذوق طعمها.. اما اولئك الذين حملوا الورود للجيش الاسرائيلي يوم حملوه حتى صدورنا ومخادعنا، فهزيمة اسرائيل، تحمل هزيمتهم.
واما »الدعم الدولي« وضمنه الدعم الاسرائيلي الذي يلقونه، فما من احد يجهل انه ليس الا جزءا من لعبة عض الاصابع داخل المفاوضات مع سوريا، الضغط عليها لتقدم على تنازلات لم تقدمها حتى الان.. كما انه تمهيد لما بعد السلام بتفتيت الجبهة المواجهة اقتصاديا، وثقافيا، وسياسيا، ليسهل الابتلاع..