جريمة التيئيس!

المسألة الفلسطينية والصهيونية، 13-03-2000

حرام ان يقوم المثقفون، والكتاب منهم خاصة، بالتصفيق والتطبيل وذر الرماد في العيون، لايهام الناس بأن الامور على احسن ما يرام، او حتى ما يمكن ان يكون..

لكن هذا الموقف لم يعد خطرا لانه لم يعد هناك من هو مستعد للتصديق.. حتى اولئك المضطرون الى التظاهر بالتصديق..

وحرام اكثر ان يقوم المثقفون والكتاب منهم خاصة باللطم والندب والحك على جرب الاحباط والهزيمة والشكوى، لاستعراض الخسارات والنكبات وسوء الحال، وقراءة الفاتحة على روح الامة والشعب، خاصة وانهم ما ان يمسحوا راحاتهم على وجوههم حتى ينهضوا الى مصالحهم وحياتهم العادية كأن شيئا لم يكن.

وهذا الموقف هو الخطر الحقيقي، لان اكثرية القراء مستعدون للتصديق، بل وللانضمام الى جوقة الندب، وختم العزاء، والانصراف الى امورهم تاركين الجثة المدفونة تتحلل طعاما لدود الارض، ويزداد استعدادهم للتصديق والمشاركة اذا ما تمتع الكاتب النداب بلغة بليغة، لها عند العرب، ما ليس لها لدى الشعوب الاخرى غير المأخوذة ببلاغة اللفظ حتى المفرغ من الفكر..

والخطورة هنا لا تكمن فقط في بساطة التصديق بل انها تتمثل في قضيتين جوهريتين: الاولى تتعلق بعلم النفس الجمعي، ودوره في مسيرة تاريخ الشعوب.

والثانية، تنبع من الاولى، وتتعلق بدور المثقف خاصة في المراحل التاريخية المظلمة والصعبة.

قبل الحرب العالمية الاولى كان هناك شاعر فرنسي معروض بغنائيته الوطنية المتحمسة اسمه »هنري دو تيو« يبدأ قصيدته بعبارة »يا فرنساي«.. وبعد الحرب، التي لم تحقق فيها بلاده الا موقعا ضئيلا محبطا، كتب بحزن: »اية نقطة ضئيلة يحتلها وطني على خريطة العالم!«.

وفي كتابه عن حرب الخليج، الصادر عام 1990 اعتبر جان بيير شغينمان ان ذهنية التيئيس واحتقار الذات – ومثل بها بهذا الشاعر – هي التي كانت وراء تعاون الفرنسيين مع المحتل النازي في الحرب الثانية، واشار الى ان ديغول نفسه كان يعي هذا العامل السيكولوجي ويتحدث عنه مرارا، ولذلك اتجه عمله السياسي على اعادة احياء احترام الذات الوطنية وثقة الشعب بقدرته.

لم يكن مصادفة ان يناقش شغينمان قضية “التيئيس” وخطورتها في مقدمة كتاب عن حرب الخليج “حتى ولو انه كان يقصد بها تحليل ظروف بلاده” فان يكن دفع التيئيس هذا قد شكل بندا اساسيا في استراتيجية الحرب النفسية عبر الدفع الاعلامي والثقافي الذي مارسته علينا الدوائر العدوة منذ عقود، فان هذه الحالة لم تعد بحاجة الى دفع بل اصبحت تعمل بقوة الدفع الذاتي بعد حرب الخليج وتصب في النهاية في مصبين اساسيين:

– القبول بأي مفروض واي تنازل واي شر..

– الانصراف الى المنافع المادية الفردية حتى بعيدا عن المعايير الاخلاقية.. والكفر بأي وجود عام، واستبداله بتكتلات مرضية متفجرة فيما بينها ومتفجرة من داخلها.

اما دور المثقف وخاصة الكاتب.. فان احدا لا يقول بأن الكاتب يفقد لمجرد كونه كاتبا الحق في ان يحبط وييأس لكن عليه في ظروف التداعي الصعبة ان يحتفظ بيأسه لنفسه اذا كان عاجزا عن تجاوزه، وعاجزا عن تجاوز ردات الفعل الطفولية السطحية الانفعالية، الى معالجة عقلية واعية، لا تنكر السلبيات بل وتسلط الضوء عليها لكنها ايضا لا تنكر الايجابيات التي تحمل وحدها بذرة المستقبل.

ويزداد هذا الشرط حدة عندما يدعي الكاتب انه كاتب سياسي، بمعنى انه يضطلع بدور تحليلي، توعوي، توجيهي.

ليس المطلوب منا ان نضع خططا لوزارات الدولة.. ولكن اول المطلوب منا دون شك الا تكون كلماتنا رصاصات قاتلة نطلقها على روح الامل والايمان، لا.. ولا حجبا نلقيها على وجه الحقيقة.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون