العاب!

المسألة الفلسطينية والصهيونية، 11-03-2000

في التسعينات، كانت تباع في الولايات المتحدة لعبة فيديو “اتاري” تحمل اسم “انتفاضة”.

واللعبة عبارة عن معركة تلفزيونية بين العرب واليهود، يتمكن الطفل من ادارتها بالتوجيه عن بعد، حيث يمكنه اطلاق النار على العربي بطريقة معينة، وكلما نجح في قتل واحد ظهر له على الشاشة وجه الحاخام مئير كاهانا مبتسما راضيا.. الى ان يتمكن الطفل اللاعب من تحقيق عدد معين من الاصابات فتخرج له على الشاشة كتابة تقول انك اصبحت وزير دفاع في اسرائيل.

قبل ذلك ببضع سنوات كانت محطة تلفزيونية تحمل اسم الشرق الاوسط ومعروف انها تابعة لجيش لبنان الجنوبي، وباشراف اسرائيلي، تبث برنامج كرتون بعنوان “قصص من التوراة” وفي احدى حلقاته التي دارت حول قصة الملك المؤابي “ميشع” بدا هذا الملك بشعا حد الشناعة، بدائيا، متوحشا، تعكس ملامحه واسلوب كلامه واكله وهيئة ملابسه كل ما يتناقض مع الانسانية والحضارة لدرجة انه يمضي الى الحرب راكبا حمارا وبالمقلوب ومثله جميع مقاتليه الذين يخوضون حربا ضد جيش منظم من اليهود الجميلين النظيفين الانيقين الانسانيين الحضاريين.. وفي حين يكون هؤلاء منتصرين طوال الحلقة فان الملك المتوحش لا يتمكن من الانتصار عليهم في النهاية، الا عندما يقدم بطريقة بربرية بذبح ابنه الطفل وعدد اخر من الاولاد امامهم مما يجعلهم يشمئزون ويتراجعون.

لم تكن خطورة هذا »الكرتون« في الرواية التاريخية بحد ذاتها، وانما في تقديم اعداء اليهود بهذه الصورة الوحشية المتخلفة التي تخلق لدى كل مشاهد وطفل مبررا سيكولوجيا لقتلهم والسيطرة عليهم، وهي لا تخرج في ذلك عن المقولة الدائمة، بان اليهود جاءوا الى فلسطين لتحضيرها من البدو المتخلفين الذين وصفتهم مجلة »متزودا« في عددها السادس بـ»انصاف – المتوحشين، الذين نموا ثقافة تقوم على اخلاقيات الصحراء: الحرب والانتقام.. والذين يقتل الاخ فيهم اخاه لاجل نصف قرش«.

فهل يختلف كل ذلك عن جوهر ما قاله بيريز مؤخرا في دافوس من ان اسرائيل دولة نظيفة وثرية ومتقدمة في وسط محيط وسخ وفقير ومتخلف؟!!

غير ان المقصود هنا ليس مناقشة الفكر العنصري الصهيوني وانما التركيز على جانب تفصيلي محدد، هو قضية التوجه للاطفال، لبناء قناعاتهم وسيكولوجيتهم مما يشكل مستقبلا استعداداتهم الموقفية.

ماذا يفعل القائمون على برامج الاطفال والعابهم، لاستغلال هذا الحقل البنائي التأسيسي في تقديم الصورة الحقيقية المشرقة الجميلة لتاريخهم وابطالهم لحضارتهم الانسانية المتقدمة.

ولسنا بحاجة لاجل ذلك للكذب او التحوير او التشويه فمسلة ميشع الوثيقة التاريخية النادرة لا تؤرخ فقط لحربه مع اليهود وانتصاره عليهم، بل تؤرخ ايضا لانجازات هذا الملك العظيم الزراعية والمائية والانشائىة وغيرها.. وما اكتشف من اثار في مملكته ضم مبخرة جميلة وتمثالا لعشتار ربة الخصب.. وضم قمحا ما يزال العلماء حائرين في تحليل كونه ظل صالحا للزرع والاكل كأن عمره ثلاث سنوات لا ثلاثة الاف.

هذا القمح حاول احد المزارعين في مأدبا اعادة زرعه في بداية التسعينات، اي في فترة توزيع لعبة »الانتفاضة« فنما زرعا مثيرا للاستغراب في طول ساقه، وحجم سنبلته هازئا من البذور التي تستورد اليوم بصفة »محسنة«.

لكن هذا الحدث الاستثنائي حضاريا مر، دون ان يحظى بالاهتمام المطلوب اعلاميا تربويا وحتى زراعيا.

وفي مجال التربية التي يحلو لنا دائما ان نقرنها بـ(الوطنية) يبرز السؤال لماذا لا نقدم هذه الحالة الحضارية ومثيلاتها التي لا تحصى لاطفالنا قصصا مصورة، او قصصا ناطقة على اشرطة تسجيل او برامج تلفزيونية سواء »كرتون« او غيرها؟ كي ننمي فيهم اعتزازهم الحقيقي ونخلصهم من عقدة النقص الحضارية التي يزرعها فيهم كل ما حولهم بشرط ان نقدم ذلك بقالب متحضر هو الاخر، وبأدوات فنية بارعة جذابة وعصرية ومتقدمة.

والا كانت النتيجة معكوسة.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون