حرائق منهاتن ما تزال رائحتها في فضاء نيويورك، وصورة الدماءالافغانية المتسربة من ثقوب الرصاص في جدران الناقلات المغلقة التي حشر فيها مئات الاشخاص، في طريقهم اما الى المقابر الجماعية المئوية، او الى معسكرات الاعتقال، ما تزال ساخنة. ادارة بوش لم تتغير بعد، وعقيدة طالبان والقاعدة لم تتغير بعد، ورغم ذلك يدور الحديث عن لقاءات بين الطرفين، ومصالحة محتملة في افغانستان.
اضافة الى ان من يراقب وسائل الاعلام، ويعرف ان كل عملية تعتيم او تلميع، في معظمها، هي امر محكوم بستراتيجيات اميركية صهيونية، سواء عبر وكالات الانباء العالمية التي تتبع المهمة منها لوكالات استخبارات معروفة ام عبر الحلفاء والتابعين من مالكين وممولين، لا بد وان يتساءل عن السبب الذي جعل الجميع يعترف الان بقوة طالبان وبفشل الولايات المتحدة في القضاء عليهم وتاييدها للحوار بينهم وبين الرئيس قرضاي.
واذا ما اضفنا الى ذلك الانباء التي تسربت عن لقاء عقد برعاية الملك السعودي، وخرج بنتائج ايجابية على طريق هذه المصالحة، التي ستؤدي الى عودة طالبان الى المدن الافغانية والمشاركة في الحكم، فان الاسئلة تكثر.
التحول الى باكستان؟ ام لمواجهة الدب الروسي العائد، واحتمال لقائه مع الاسد الصيني، ببراغماتية تقر بان الاستمرار على كل الجبهات مستحيل، خاصة مع الهزة المالية المزلزلة، ومن ثم اعادة تصنيف لسلم الاولويات؟ ام بتخطيط مسبق يعرف ما يريد ولمصلحة من؟
ابسط الاجوبة واكثرها سذاجة القول بان اميركا والقوات الدولية هزمت في افغانستان. وذلك بدليل ان ما تعانيه جيوش الاحتلال في العراق اقوى واشد. اضافة الى ان التحالف الدولي، وبالتالي الغطاء مؤمن في افغانستان ولم يعد قائما في العراق، واخيرا وليس اخرا، الى ان حجة احتلال افغانستان والاتهام بالارهاب، التي قامت على احداث سبتمبر لم تنكشف بعد، كما كشفت اكذوبة اسلحة الدمار الشامل التي كانت حجة احتلال العراق، ومثلها اكذوبة اتهام حكم صدام حسين بالارهاب.
لكن الامر ليس هنا، وانما في بؤر ثلاث، هي ما بات يتقدم على سلم الاولوية فيما يخص المصالح الاميركية والصهيونية:
– العودة الروسية، والصعود الصيني وامكانية تحالفهما، خاصة وان منظمة تشنغهاي التي وضعت اسسها منذ ست سنوات قد خطت خطوات كبيرة على هذا الطريق، ولا ننسى ان مؤتمرها قبل الاخير انتهى بطلب ذهاب الاميركان من قواعد اوزباكستان، كما انتهى بمناورات عسكرية، وكل هذا قبل الصفعة الروسية الاخيرة في جورجيا. وكل هذا يطرح امكانية عودة روسيا، او هذا التحالف الى المجال الحيوي الذي طالما كان مجال صراع بين القوتين، وساحة تداول يطرد منها احدهما الاخر: افغانستان. خاصة وان روسيا اليوم لم تعد شيوعية، وبالتالي سقط الحاجز الايديولوجي بينها وبين الاسلاميين، مهما كانوا متشددين.
– البؤرة الثانية تضيء المشهد اكثر، ففيها تلتقي المصالح الاميركية والاسرائيلية بشكل كامل، وفيها يكمن الكنز الذي يمكن ان يحل محل الحاجز الايديولوجي الشيوعي المذكور: ايران، وايران الشيعية، التي تقدم صراع ايديولوجيا اخر داخل الاسلام نفسه، من ميزاته انه ابدي وليس مرحليا كما هو حال الشيوعية، وبتاجيجه يمكن تجنيد جميع القوى الاسلامية بعضها ضد البعض الاخر، حتى داخل الدولة الواحدة، كما هو الحال في باكستان. وهنا يبرز السؤال: هل ان الاحقاد المذهبية تبلغ فعلا هذا الحد الذي يدفع القوى الاساسية في العالم الاسلامي الى رعاية مصالح اميركية على حساب مصالح اشقائها؟ ام ان الحجة المذهبية تستعمل وسيلة لتجييش العامة والغوغاء لخدمة هذه المصالح؟ ام ان ثمة خوف داخلي لدى كل سلطة يجعلها مستعدة للقيام باي شيء لحماية نفسها من مواطنيها قبل الغرباء؟
المهم انه اذا استطاعت واشنطن ان تعود الى علاقاتها القديمة بطالبان والقاعدة، فسيكون من الاسهل عندها قطع الطريق على روسيا والصين، الالتفاف على ايران، تفجير باكستان من الداخل،ومن ثم خنق سوريا والمقاومة اللبنانية والفلسطينية، واخيرا اذكاء الشرخ المذهبي داخل كل دولة من الدول العربية والاسلامية،بحيث يضعفها ويجعلها اكثر فاكثر ارتهانا. ولن يكون من المستغرب مع ذلك ان يصبح اقتراح تسيفي ليفني بان يكون بعض العرب واسرائيل جبهة واحدة ضد ايران وبعض العرب، وربما جاز لنا ان نسال: الم يبدا ذلك فعلا؟؟؟؟
غير ان البؤرة الاهم والتي تشكل محور كل ما يحدث في العالمين العربي والاسلامي، هي العراق. فمصير الاحتلال هناك هو مصير الامبراطورية، ومن ثم اسرائيل. وهذا هو الرهان الذي توظف سياسات العالم الغربي كله لصيانته وخدمته. واذ نقول مصير الامبراطورية، فلنا ان نتخيل ما الذي يمكن ان يحصل لها لو فشل الاحتلال في العراق، بدءا من انحسار نفوذ واشنطن في العالم العربي كله، اولا، ومن ثم في العالم الاسلامي. ومن تراجع هيمنتها على منتجي النفط، بعد ان خسرت معركة الهيمنة على منتجي الغاز، خاصة اذا حصل ما اعلنه الرئيس بو تفليقة عن تشكيل منظمة للغاز تضم الجزائر وايران وروسيا وفنزويلا. وهنا يدخل العنصر الاسرائيلي ايضا باقصى قوته، فقد امّن سجن المارد العراقي في قمقم قاتل، وقضى بذلك على حركة كل العرب ومشاريعهم، ولا يمكن له ان يسمح راضيا بخروجه، مع كل ما سيحمله معه، هذه المرة، من نار حقد ضد الدولة العبرية، ليس في العراق فقط وانما في العالم العربي كله. واذا كان لنا ان نعترف بان هذا العالم منقسم الى قسمين واحد يختزن الحقد والكراهية ويتحين الانتقام لكرامته ووحدته وقضاياه، واخر ملحق تماما بالارادة الاميركية وخططها، فاننا لا يمكن ان ننسى ان هناك قسما ثالثا، ربما شكل الاكثرية، هو من قبيل الوقوف ( مع الواقف ) او من اللامبالين او المحبطين الذين يسهل تحريكهم عند حالات النهوض.
مما سيعني على الارض، توجيه كل الجهود الى الساحة العراقية، عسكريا وديبلوماسيا، مما يقتضي التفرغ من العبء الافغاني، بل وتحويل هذا العبء الى حليف، يلعب من جديد دور الحاجز في وجه عودة اسيوية روسية، يمكن ان تعطي العراق وفلسطين فرصة اللعب على توازنات دولية. وهذا ما سيترجم بعدة اجراءات من اهمها تفعيل الصراعات الدينية والمذهبية، وها نحن نرى مايحدث في الموصل، كما نرى تاجيج الشرخ السني الشيعي، وفي كل هذا يمكن للقاعدة ان تلعب دورا محوريا اذا ما حصلت مصالحة بين طالبان وبين اميركا. دون ان يلغي ذلك امكانية انقسام مايسمى بالقاعدة على نفسها في هذا السياق، او امكانية توظيف عناصرها في الوجهة التي لم يشاؤوها في البداية ( كما حصل في نهر البارد ).