طلاق الكائن والفكر

ثقافة، فنون، فكر ومجتمع، 05-02-1999

رغم انني لم أكن يوما من المتحمسين لادب “العبث”، وتحديدا مسرح العبث، الا ان حالنا، هذه الايام، تدفع المرء الى اعادة قراءته، وتجعله يتوقف عند يوجين يونسكو وكلامه عن اللغة، خاصة عند الاستماع الى بيانات مؤتمراتنا، وتصريحات مسؤولينا السياسيين.. حتى قراءة ما يكتبه طلابنا في المدارس.
“طلاق بين الكائن والفكر، والفكر اذا ما افرغ من الكائن جف، وضمر، ولم يعد فكرا والواقع ان الفكر هو التعبير عن الكائن، يتطابق معه، يمكن للمرء ان يتحدث دون ان يفكر، وهنا يجد الكليشيهات الجاهزة في متناول يده، اي الآلية.. اذ ليس هناك فكر غير حي”.
واذا كان وضع اوروبا، المشرذمة، المشتتة، المهزومة بعد الحربين العالميتين قد افرز هذه الحالة التي يعبر عنها يونسكو في الخمسينات، فان حال العرب بعد كل حروبنا وكل هزائمنا واستلابنا تتجاوز حالة ابطال يونسكو الآليين، المفرغين، المنفصمين في اغتراب الكائن عن فكره، والنتيجة، غياب الارادة، وانتفاء الخيار والموقف، وانعدام الفعل، مما يحول الكلام الى جثث كلمات وجمل، يتكدس بعضها قرب او فوق بعض، دون مدلول حقيقي، اللهم الا مدلول ما تعبر عنه من حالة.
لذا نجد قارىء الصحيفة يكتفي بالعناوين، وبالاسطر الاولى من المقال، ومشاهد التلفزيون، حتى الاطفال، يعلق ساخرا او مكذبا.. او يكمل تلقائيا عبارات او فقرات لم يكد المتحدث يبدأها.
وتتحول الحالة الى حالة ابطال يونسكو، حيث تختلط الكوميديا بالتراجيديا.. وتصطبغان معا باليأس.
ألم يكن هذا مثلا توصيفا لبيان وزراء الخارجية العرب، الذي وصفه توني بلير بالحكيم.. ووصفه زميل لبناني بالمعاق؟
الا ينطبق هذا ايضا على التصريحات المتعلقة بالانتخابات الاسرائيلية.. التي قد يكون لها علينا – عند انتهائها – فضل جمع قمة عربية لتدارس كيفية التعامل مع رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد. هذا الجمع الذي لم ينجح في تحقيقه “خراب البصرة”؟
فهل ينتظرون ما بعد خراب البصرة؟
أم انهم ينتظرون حالة التئام بين الكلام والفكر، لا يمكن ان تتحقق الا بالتئام بين الارادة والفعل. فخطاب المهزوم هو دائما خطاب “التأتأة”، وخطاب الكذوب هو دائما التطويل والاطناب.
اما انتفاء “الطلاق” الذي تحدث عنه يونكسو فيتطلب العبور من الوعي، الى الموقف، الى الاستعداد للتضحية في سبيل تطبيقه.. وذاك كله، ما تلغيه الحياة الاستهلاكية، التي حولت، حتى اثرياءنا، من دائنين الى مدينين، ومن متنعمين الى متسولين؟ ودحرجت كرة الفشل الثلجية، بحيث اصبح بساط الكلام عاجزا عن سترها او تبريرها، فمن اين لنا بحرارة تقدر على اذابتها؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون