“رحلتي عبر القرن وحيدا! “.. هذا هو العنوان الذي حملته مذكرات المفكر العالمي الكبير روجيه غارودي.
هذا العجوز الباسم الذي استقبل نهاية القرن، عاجزا عن الحركة في منزله الريفي البديع على نهر المارن، هو الفتى الذي شهد الحرب العالمية الاولى، والشاب الذي شارك في الثانية، واعتقل مناضلا في صفوف فرنسا الحرة، ليخرج من المعسكر النازي ماركسيا يصل منصب عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ومن ثم يتمرد على حزبه، وينشر مآخذه عليه، وفضائحه الفكرية..
يعود الى المسيحية فيتمرد على الفاتيكان وينشر كتابا حول مثالب الكنيسة الكاثوليكية، اعتبر حربا جديدة عليها.
يبلغ الاسلام، فيعتنقه، دون ان يتخلى عن موقفه النقدي، فيكتب “عظمة وانحطاط الاسلام”.
يقف امام قيام اسرائيل واغتصابها لفلسطين فيكتب “قضية اسرائيل” لكن الكتاب ومعايشة الواقع يقودانه الى نظرة شمولية ثاقبة في العمق والاتساع، فيدرك ان الكيان الاسرائيلي انما يستند الى اساس ايديولوجي توراتي اسطوري، ويستند الى اسطورة اخرى هي اسطورة الهولوكوست التي ضمنت له ليس دعم اوروبا لدولة الاغتصاب فقط، وانما سيطرة اللوبي اليهودي على القارة القديمة عامة وبلاده فرنسا خاصة، وابتزازه لها لصالح اللوبي واسرائيل.
يثور ضد القانون القامع للحريات »قانون غايسو« لكنه يحاكم بموجبه.
ينتقل من »الاساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية« الى »الاساطير المؤسسة للسياسة الاميركية« والى تحليل الامركة التي تفرض على العالم، واساليب مكافحة الامركة.
وعلى امتداد هذه المسيرة النضالية المشاكسة، يصدر الرجل ما يزيد على خمسين كتابا في الفلسفة والفكر والفن والسياسة.
خط واحد ينتظم مسيرته كلها:
التمرد الدائم.. التمرد المبني على التزام عميق بالاسس، ورفض جريء واضح لتشويهها او لاجترارها من قبل الذين يدعون حمل مبادئها.
فاليهودية مرض شعب اسرائيل وانهيار المسيحية، ذنب الكنيسة، والخطر على الاسلام من داخل الاسلام نفسه، ومشكلة الماركسية ليست في ماركس وانما في الذين طبقوها.
هكذا يقول، ويتحمل وزر قوله.. ويستمر في السير عبر القرن، حاملا توقده، وجرأته.
يوما يقاطعه اصدقاؤه الشيوعيون، فيقرر رمي نفسه في السين، لكنه يقف طويلا على الجسر، متأملا وحولة المياه وقذاراتها، فيتراجع عن القفز اليها.
يوما يحب امرأة راقصة، فيعكف على التخصص في النقد الفني، وينتج مقالات وكتبا رائعة في ذلك.
بعد اعتناقه الاسلام، يحب امرأة عربية، فيقرر الزواج ثانيا وهو في السبعينات.
الاولاد: لي ابنة علاقتي بها فائقة الحميمية.. لكنني عندما احب امرأة لا افكر اطلاقا بالاطفال. يجب ان نحب الآخر لذاته فقط.
زعماء العالم وكباره، ندر منهم من لم يقابله او يتعامل معه او يذكره… وهو اذ يذكر يذهل لانه لا ينسى ادق التفاصيل.
ورغم ذلك كله..يكتب رحلته عبر القرن »وحيدا«.
اهي “الوحدة” قدر العظماء، ام قدر »المختلفين« المتفردين، اولئك الذين لا يرضون الانضمام الى السرب، ويصرون على التحليق والتغريد على ارتفاعات اخرى، باتجاهات اخرى، والتغريد بنغم منفرد.
ام هي قدر الحقيقيين، الذين يشعرون بأن التزامهم الاول والاخير هو تجاه ذواتهم، وقناعاتهم.. وبأن الصدق يبدأ من الصدق مع الذات ثم مع الآخرين.
وان الاساس ان تتصالح مع نفسك ولا بأس بعدها ان اصطدمت بكل من لم يقبلك.