جنون المعصومية

ثقافة، فنون، فكر ومجتمع، 05-02-1999

مصطلح جديد، لم يطلقه، على المرض الذي يصيب القادة الديكتاتوريين، شاب يساري ثائر، لا.. ولا مواطن لاحدى الديمقراطيات الراسخة، او لمملكة، الملك فيها رمز شكلي، اما الحكم فلحكومة تمثل الاكثرية المنتخبة.

بل انني سمعته على شريط يحمل تسجيلا لحديث لولي عهد دبي، في جمع من القيادات الادارية في بلاده، عرض فيه لمفهوم القيادة.

ببساطة وموضوعية، حلّل الامير الشاب، واقع تشكل الديكتاتور تاريخيا، وسيكولوجيا: لم يكن هتلر قائدا سيئا، – قال – بدليل ما انجزه لبلاده في البداية، لكن تكوّن جنون المعصومية لديه هو الذي جعله يدمر بلاده والعالم.

ونحن، في هذا العالم العربي، المثقل بالقادة »الملهمين« الذين قادنا »الهامهم« المعصوم، الى ما نحن فيه، دون ان يشهد تاريخنا المعاصر، وقفة واحدة، يعترف فيها احدهم بمسؤوليته عن شيء من كوارثنا (باستثناء وقفة عبدالناصر بعد حرب حزيران) فكلهم معصوم وما فيهم من معتصم.. كم يحق لنا ان نفاجأ ونفرح عندما نسمع احد المرشحين للقيادة مستقبلا (والمشاركين فيها حاليا) ينتبه الي مرض »جنون المعصومية«، ويقابله بالحديث عن المسؤولية عن الاخطاء، وتقبل الحديث عن العيوب، والبعد عن الغرور، والبحث عن المعرفة، واحترام الاختصاصات، كل ذلك في خدمة رؤية واضحة محددة مستشرفة.

وكم يحق لنا ان نستبشر ونحن نجد شابا في موقع القيادة في منطقة يطلق عليها الاعلام الغربي تسمية »الملكيات النفطية« (Monarchies petrolieres) (في دلالة واضحة على ما يعني العالم منها.. ومنا..) – نجده يضع الاصبع، ببساطة الخطاب الذي لا يتوسل اللغة بديلا عن المضمون، على نقاط الخلل الرئيسية وتجلياتها في الواقع الذي تحدث عنه محليا، لكنه ينطبق على المجال العربي كله.

في الموسوعة البريطانية تعريف للعرب يقول انهم من ارقى الاعراق، ويتفوقون ذهنيا وعقليا على الكثيرين، لكن تأخرهم في مسيرة التقدم يعود الى عدم قدرتهم على العمل المشترك.

وايا يكن استقبالنا وتقييمنا المتحفظ لهذا الكلام، فانه لا بد لنا وان نعترف بصحة غياب روح الفريق عن ادائنا السياسي والاداري والاجتماعي.

لذا نجد في تركيز حديث الشيخ محمد على نمط »فريق العمل«، وعيا فاعلا لهذا الخلل المدمر، اضافة الى ان المثالين الذين اوردهما لتأكيد الطرح يقودان الى جانب حضاري حداثوي آخر في تفكيره:

فهو يتحدث عن دور اسلوب »فريق العمل« في انجاح التجربة اليابانية، وذاك ما اطلق عليه الكاتب السياسي »ايف غو« توصيف »نمط الدائرة« الذي يتبدى في كل فعالية يقوم بها اليابانيون، من الشعر الى لعب الاطفال، الى نظام العمل في المصانع، الذي تحدث عنه طويلا في مذكراته مؤسس شركة (سوني)، عملاق الاقتصاد الياباني الحديث.

لكن الامير الشاب يعيد هذا النمط، من جهة اخرى، الى التراث العربي والمحلي، من مثل رحلات صيد اللؤلؤ، مقيما بهذين المثالين، وببساطة، شرط تقاطع التجذر في التراث مع الانفتاح على الاخر، وهو الشرط الضروري لكل عملية تحضر ونماء.

عبور آخر، الى مشكلة يجمع عليها المفكرون والباحثون، على ابواب الفية العولمة، وهي ازمة الضجر، وغياب الروح الابداعية لدى العاملين، وهي ازمة لا بد ان تواجه بحلول نفسية هي الاخرى.

اما القضية الثانية التي عرض لها الحديث فلم تذكرها الموسوعة البريطانية، لكننا، نحن، نعرفها جيدا، وهي استهانة الانسان العربي بالزمن، وكأن عنصر الوقت الذي يحدد معنى كلمة »تخلف« او »سبق« هو مصطلح مغيب من قاموسنا الحياتي السلحفائي، الغيبوبي.

ويستكمل هذا الطرح حداثويته بالتركيز على المرأة، وتحفيز دورها.

ليصل الى موضوعة اللغة، تلك التي تعبر، بصفتها تجسد الفكر السائد، عن كل تمطينا الممل، وكل تزوقنا الخارجي الشكلاني، وكل ضياعنا الرؤيوي الفكري، فاذا هي تتكلم فيضا ولا تقول شيئا، لانها اصبحت لغة الصفات لا لغة الفعل، ولغة التفاف المنافق او الضائع، لا لغة الحر الواعي الفاعل الذي يعرف ما يريد بدقة، ويوصله كذلك.

واخيرا.. الحلم،، ذاك الذي افتقده قادتنا، فأضاعونا واضاعوه، ربما لانهم فقدوا قوته المولدة وهي الايمان بناسهم.. وحجموا الامة بحجم ذات فردية صغيرة مهما كبرت..

اهي دعوة واعية للتغيير؟

اجل.. فالامير الشاب يدعو الى »نسف من الجذور« لكنه لا ينسى ان يحدد، انه يقصد بالجذور، جذور التخلف والخطأ، لا التنكر لكل ما هو ماض..

اوليست اول ملحمة خلق عرفتها الانسانية علي شواطىء الرافدين، هي التي جعلت مردوخ يقود ثورة الالهة الشابة في سبيل التغيير نحو الحركة المنظمة بدلا من السكون.

لكنه اذ ينتصر على تعامة، لا يلغيها وانما يفسخ جسدها الى نصفين، مشكلا منه الارض والسماء؟

في دلالة فهمهما السطحيون انها عمل عنف، لكنها في بعدها الرمزي، اجمل تعبير عن مفهوم الاستمرارية.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون