الشيء ذاته

ثقافة، فنون، فكر ومجتمع، 05-02-1999

«انهم ضحايا ومذنبون، مذنبون لانهم لم يعترضوا، لم يتمردوا على الحرب، ولكن هل استطاع الضحايا يوما ان يتمردوا؟ ان يعارضوا هذا العالم المجنون؟ لكأن الجميع كان على اتفاق مسبق مع الموت..»

في رواية صدرت مؤخرا للروائي اليوغوسلافي فيدوناف ستيفانو فيك، بعنوان «الشيء ذاته».

اجل انه الشيء ذاته، يتكرر في بلاد هذا الكاتب، التي لم تعد «تعرف باسمها» وتلك قمة المأساة بالنسبة له.

لكنه «الشيء ذاته» ايضا بالنسبة لاوطان كثيرة فرضت عليها اسماء اجزائها او اعراقها او طوائفها المتحاربة، وفرض عليها ان يبدو كل فرد فيها منخرطا في توقيع المعاهدة المسبقة مع الموت، فاما ان ينفذها داخل الاتون، واما ان ينفذها بالهرب الى منفى، لا يحمل اليه معه الى «وطنه في صدره، مهربا» بتعبير الكاتب الالباني مدحت بيجيك.

«كله يتكرر» صيغة اخرى للعنوان «الشيء ذاته»، والروائي يحاول ان يعكس ذلك في اسلوبه الروائي، حيث يعمد الى التكرار مرات، الى حد يثير الاختناق او التقيؤ.. ويتواتر ابطاله الاحد عشر، المختلفون في شخصياتهم، باستثناء ملمح واحد يوحدهم: رفض الحرب، لكن.. رفضا سلبيا جعلهم منفيين في باريس حيث يعيشون في حالة بائسة، ينتظرون ان تنتهي حرب.. لكن لتبدأ اخرى..

لم يلتزم ستيفانوفيك وحده بنية روائية، بحيث يبدو عمله مفتتا الى مجموعة قصص، وذاك لانه قد اراد بذلك ان يعكس حالة التفتت حتى في الشكل الروائي، بعد ان جعل التواصل الحقيقي متقطعا بين شخصياته نفسها، رغم التضامن الظاهري الذي يخلقه المنفى.. وللمنفى اخلاقياته التي لم تكن يوما ايجابية، والتي يغوص فيها ليجعل من كل منهم، حالة تشوه خاصة: واحد جعلته الحرب اعمى، وواحد شاهد بعينيه قتل ابويه، فلم يعد يستطيع اغماضهما، وآخر كان يفتش جيوب القتلى ليسرق ما فيها، واخرى تحمل في احشائها طفلا لا تعرف اباه، وواحد يعرف في سره انه شارك كثيرا في القتل قبل ان يقرر الهرب منه..

عبر كل هؤلاء يبدع الروائي في الغوص والتنقيب بعيدا في التشوهات الانسانية السيكولوجية التي تخلقها الحرب.. والمنفى..

كم واحدا منا، سينتبه الى ان هذه الرواية هي روايته الشخصية. وان كان بيننا ضحايا كان بامكانهم ان يتمردوا لان العدو عدو.. ببساطة. وضحايا لم يكن بامكانهم ان يتمردوا الا على رفض الحروب لانها رقص دموي مجنون على جسد الأم الواحدة!

كم واحدا منا سينتبه، وهو يقرأ هذه الرواية، الى وطن خبأه في صندوق صدره وموهه بعناية، كي يتمكن من «تهريبه» معه، تهريبه من «الشيء ذاته».

وكم سننتبه ونحن نقرأ هذه الرواية، الجميلة فعلا، الى اسبقيتنا الفائقة في معايشة جميع المواقف والمشاعر، التي يفرضها تنفيذ ذلك الاتفاق الالزامي المسبق مع الموت؟!

ولكن اي قارىء سيجرؤ على كشف الملابس عن عري ما، فيه ندبة ما؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون