كما حمل كولن باول، وزير خارجية الولايات المتحدة عام 2003، صور شاحنات أسلحة الدمار الشامل في العراق، حملت مندوبة الولايات المتحدة صور الأطفال ضحايا خان شيخون. وكما ظهر واضحاً بعد الحرب أن فرق التفتيش الدولية كانت قد أكدت خلوّ العراق من أسلحة الدمار الشامل، فإن خبراء وكالة الطاقة أكدوا خلوّ سوريا من الأسلحة الكيماوية.
مدخل تحليل يبدو مثيرا للتشاؤم، ولكن في علم المنطق إن تشابه البدايات لا يؤدي – بالضرورة – إلى النهايات ذاتها. لكن الأساليب هي هي ذاتها، واللوبيهات هي ذاتها. أساليب لا تعدو كونها فصلاً متكرّراً من بروباغندا الحرب، يلجأ في هذا المقلب منه إلى تاثير الصورة.
مؤلمة صور ضحايا الانفجار الكيماوي، أمر لا جدال فيه. ولكن من الذي يسمح بتحديد المدان بهذه الكارثة قبل اي دليل وأي تحقيق؟
بعد دقائق من الحادثة، كانت تلفزيونات فرنسا تعلنها كهجوم من قبل الجيش السوري الذي تسميه، “جيش الأسد”، تطبيقاً لمبدأ “الشخصنة” الذي يتصدر مبادىء دعاية الحرب. وكرّت المسبحة بحيث تداعت جميع دول الأطلسي إلى الاتهام دون أي تحقّق ورغم علمها جميعاً بأن مخزون الأسلحة الكيماوية لم يعد موجوداً إلا لدى الجماعات المسلحة.وسائل الإعلام لعبت دوراً أساسياً في عملية الشحن والتحريض هذه، بعيداً عن أية مصداقية أو موضوعية وحتى أخلاقية، مما جعل الدكتور داود خيرالله يقول “ان الإعلام الغربي أصبح خطراً على السلام العالمي”.جولة على معركة الصورة في الإعلام المطبوع، (بما إن مقالاً واحداً لا يتسع لكافة وسائط الصورة)، وإذا نحن أمام حملة تداعت من مكان إلى آخر، كما يحصل دائماً، وفق أوركسترا متعددة يقودها مايسترو واحد، تقدمتها مجلّة ليبراسيون الفرنسية بغلاف غريب.
صورة مجموعة من الأطفال العراة، المكدّسين على الأرض، ولكن ليس عشوائياً، بل إنهم رصفوا بشكل شعاعي، وسلّط عليهم المصوّر إضاءة قوية كاشفة تبرز بياض أجسادهم، بياض الموت، وعيونهم مفتوحة بشكل مرعب على خلفية سوداء تماماً يعلوها عنوان “أطفال الأسد”. صورة لا يكفي أن نقرأها بعين عربية لأن علم السيميولوجيا يقول بأنّك حين تقرأ صورة فإنما أنت تقرأ ثقافتك. وبناءاً على هذه الثقافة، يختلف اختيار وتأثير ما يُسمّى بـ “الرموز المؤثرة” . من هنا، لا بدّ من النظر بعين المتلقّي الغربي وتحديداً الأوروبي، وأكثر الفرنسي.عين يتشكل وجدانها الجمعي والفردي من الثقافة اليهو – مسيحية ، كما يتشكل وجدانها التاريخي من عقدة الهولوكوست ومفتاحها :الغاز . القتل بالغاز. صورة غلاف ليبراسيون أشبه بأيقونة مسيحية فنية. يتصور المرء أنها مأخوذة من معرض فن تشكيلي أوروبي، أو من فيلم فني ركبت صورته بشكل مدروس. فهؤلاء الأطفال يشبهون إلى حد كبير الملائكة الذين نجدهم في رسوم جدران الكنائس الغربية وفي الأيقونات واللوحات المتداولة من المرحلة الكلاسيكية والقوطية الأوروبية، بحيث تبدو وضعيتهم حائرة بين السماء والأرض، بين الطيران والنوم، أو لنقل في حالة النشوة السماوية (خاصة عندما كانت اللوحات والرسوم على جدران الكنائس تريد أن توحي بأنهم نازلون من السماء) كما توحي وضعية العيون وحركة الذراعين التي تنفتح كالاجنحة او تستسلم للرقاد.
ويُلحظ هنا أنهم جميعاً بيض البشرة أميل إلى الشقرة، أما ملامحهم فلا تشبه الملامح العربية والسورية عموماً (بتعددية أنماطها)، بل تشبه الأوروبيين، مما يعزز عملية التماهي النفسي لدى المتلقّي.
نأتي إلى دلالة خطيرة أخرى، وهي المئزر الذي يلف عورة كل منهم، وهو يشبه إلى حد كبير الصور المعروفة للسيد المسيح على الصليب، كما أنه نمط متكرر أيضاً في صور الملائكة. بحيث تكتمل معادلة: الدال – المدلول – الدلالة، لتعمل على إثارة الوجدان الجمعي، واستفزاز الوجدان الثقافي الأوروبي باتجاه الظلم، والجريمة إزاء البراءة. مسؤول قسم الصور في مجلة ليبراسيون يقول إنّ المجلّة حصلت عليها من وكالة اسوشيتد برس. وهي أُخذت من فيلم قام بتصويره فريق من الشباب السوريين العاملين في مركز إدلب للإعلام. ويحتج هؤلاء بأنه قد تم نزع ملابس الأطفال لأنها ملوّثة، قبل أن يُجمعوا في سيارة بيك أب لنقلهم إلى المستشفى، وهناك قام فريق التصوير بالتقاط صور الفيديو لهم. أما تبرير الصحيفة لنشرها هذا الغلاف، فقال إنه لم يكن بهدف البيع ولا التعرّض لحميمية الضحايا، وإنما لأن مرشحي الانتخابات الرئاسية لم يتطرقوا (باسثناء هامون وماكرون) إلى موضوع خان شيخون. وذلك في المناظرة الرئاسية التلفزيونية التي صادف موعدها بعد الحادثة. إذن عملية استنفار ضغط شعبي يستجدي العواطف والذاكرة . الشبكة الكهربائية الجاهزة تحرّكت بإيقاع واحد : “واشنطن بوست” ،” ديلي تلغراف” ، “الاوبينيون” إلخ… و”وول ستريت جورنال” تسبق إلى صورة المندوبة الأميركية، ترفع صورتَيْن أمام مجلس الأمن لتدعوه إلى التحرّك.الصور كلّها لأطفال، صورة الموقع تكشف عن موقع محصّن داخل جبل صخري ومدخل إسمنتي مقوّى. مخرن أسلحة تقليدية وكيماوية. إذن، ألم يتواجد داخله أو بقربه إلا الأطفال؟ أليس لهؤلاء الأطفال أهل؟ أين المسلّحون؟ أين الكاميرات منهم؟ ثم من أين جاء العاملون في مركز إدلب للإعلام بهذه التقنية العالية؟ من درّبهم؟ من موّلهم؟ ومن يدير أعمالهم؟ ولماذا الأسوشيتد برس؟ ألا يذكرنا هذا بما حصل عام 2013، عندما كان اللوبي اليهودي يضغط لتنفيذ الضربة العسكرية، فيما كانت التحضيرات جارية لجنيف 2. يومها، صدرت لوموند بصور لهجوم كيماوي وعنوان “مجزرة بالغاز في دمشق”، ليخرج إثرها لوران فابيوس ويصرّح بأنه متأكّد من استعمال النظام لغاز السارين، بناءاً على تقارير مختبر فرنسي لعيّنات جاء بها صحافيان فرنسيان من جوبر وسراقب!! يومها عنونت لوموند فرعيّاً “إن غاز السارين أخطر مئة مرّة من السيانور”. لماذا المقارنة بالسيانور بالذات؟ لأنه الغاز الذي يقال إن النازيين قد استعملوه في المحرقة. وهنا أيضاً يكمن التلاعب بهذه الذاكرة التاريخية التي تشكل عقدة ذنب محرّكة للسايكولوجية الأوروبية. خاصة الألمانية الفرنسية.قراءة سريعة لنماذج من حرب الصورة ربما تساعدنا على الإجابة على سؤال: من الذي يضغط لتخريب أي حلّ سياسي ممكن في سوريا؟ من الذي يريد التحريض على هجوم عسكري؟ أو على مجرّد استمرار تفجّر القنبلة العنقودية بحيث لا يتوقف الاستنزاف، إن لم يعد نموذج العراق ممكنا؟