ينسحبون من داريا والمعظمية إلخ… ينسحبون من حلب الشرقية… ينسحبون من الموصل… وبعد.
وسائل الإعلام تبث أخبار انسحابات المسلحين وعوائلهم من مناطق النزاع في سوريا، ووسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الحديث سبقت تلك في نشر أخبار وصور انسحاب مسؤولي «داعش» وعدد كبير من مقاتليه، بآلياتهم العسكرية إلى سوريا. فأي واقع يرسم هذا الحراك وبأي مستقبل ينذر؟ أهو نهاية المشروع الإسلامي المتطرف والإرهاب في العراق والشام وبالتالي في المنطقة العربية كلها، أم هو صياغة جديدة لهذا المشروع ومعه للخريطة الجديدة لهذه المنطقة؟
البدء من الموصل لأنها الأخطر لعدة أسباب: أولها أنه يكتسي بالكامل صفة مكافحة الإرهاب الذي تتفق عليه كل دول العالم، ما يترجم بمشاركة أممية في القوات التي تهاجم التنظيم في المدينة، تتجاوز الذين شاركوا في احتلال العراق عام 2003. ولكل من هؤلاء أجندته. وثانيها أن أحداً لا يملك أن يكون ضده أو لا يوافق عليه، لأنه بذلك سيكون مدافعاً عن «داعش». أما ثالثها فإنه يأتي تحت راية قيادة الدولة العراقية ، ولكن من الواضح إن إطلاق يد الجيش العراقي لم يأت إلا بعد شبكة هائلة من الاتفاقات والقيود التي سيكشف عنها الزمن.
غير أن ما لا يحتاج إلى الزمن هو واقع يبرز ثلاثة أهداف رئيسية: الأول هو دفع القوة الرئيسية في التنظيم وقياداته إلى الأراضي السورية حيث سيدعم ذلك تكثيف قوته في مناطق سيطرته هناك ويؤهله بالتالي إلى فتح معركة استنزاف أكبر مع الروس والسوريين. هدف تؤكده إجراءات حصار الموصل، حيث تم تطويق المدينة من كل الجهات باستثناء الحدود مع سوريا التي تركت مفتوحة، كما كشفت الأنباء عن أن الجيش العراقي التزم بشرط عدم التعرض للقوات المنسحبة في هذا الاتجاه.
الهدف الثاني، وربما الأكثر خطورة يتأتى من الإقليم. ففي عام 1923 عقدت اتفاقية لوزان التي تنازلت فيها تركيا عن العراق وسوريا، بعد أن أعطتها المعاهدة جزءاً من الأراضي السورية، ونصت على أن مصير قضاء الموصل يعاد طرحه بعد مئة عام. وها نحن على بعد ست سنوات من الموعد. من هنا فإن إصرار جهات معروفة على إلباس المعركة الآن طابعاً مذهبياً، مقروناً بالإصرار على تكليف تركيا بدور ما يسمى «حماية أهل السنة»، سواء عبر قواتها أو عبر الميليشيات التي شكلتها بقيادة اثيل النجيفي، قد يقود إلى صراع ولو مفتعل في المدينة وملحقاتها، يفتح الباب أمام الحكومة العثمانية الجديدة للمطالبة بضم القضاء أو بنوع من الوصاية عليه.
بالمقابل يقود التذكير باتفاقية لوزان إلى أنها ألغت بنداً في اتفاقية سيفر التي سبقتها نص على إعطاء الأكراد وطناً قومياً. فهل سيشكل كل ذلك أساساً لتقاسم تركي كردي لشمالي العراق؟
وإذا ما فتح هذا الباب فهل ستنسى تركيا أردوغان أنها تنازلت في لوزان عن كامل العراق وسوريا، كما عن مصر والسودان وليبيا؟ أم ستتذكر ما كتبه مؤرخها المعروف، قدير مصر أوغلو، من أن الأتراك تخلوا عن قيادة المسلمين ورضوا بقطعة صغيرة من الأرض؟ أراد ت العثمانية الجديدة أن تستعيد قيادة المسلمين عن طريق زعامة الإخوان المسلمين. إرادة لم تسقط بعد، ولم تستكن للفشل الذي انطلق من مصر. كما أنها لا تعدم في إدراجها تكتيكات ومخططات جديدة.
ومن هنا يلتقي موضوع تجمع مسلحي «داعش» في سوريا مع تجمع كل المنسحبين الآخرين ليشكل قطاعاً جغرافياً وبشرياً عسكرياً واسعاً من النفوذ الإسلامي المتطرف المهيمنة عليه تركيا، قد يتحول إلى كانتون في المشروع الفيدرالي السوري مواز للكانتون الكردي المتصارع معه. صحيح أن أكثر من طرف يملك نفوذاً على جماعات هناك، ولكنه نفوذ ينحسر لصالح الأتراك أو أنه قد يلتقي في النهاية أمام صبغة واحدة من الإسلام المتطرف، خصوصاً أن الذين اختاروا خيار الانسحابات هم الأكثر تشدداً، فهم الذين رفضوا المصالحات سواء عراقياً أو سورياً. وهم بذلك مؤهلون لمواجهة استنزافية حادة مع القوى الأخرى الموجودة على الساحة، إذا لم يكن جزءاً منهم على استعداد للتوجه إلى ساحات أخرى، قريبة أو بعيدة يطولها مشروع محركيهم.
الهدف الثالث الذي تنتصب شباكه في مكان آخر، أمريكي، حيث سيشكل الإخراج الإعلامي المهول لتحرير الموصل إنجازاً لإدارة أوباما يوصل هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض. وهذا بحد ذاته لا يرتسم دون ثمن وليس بلا ماض. كما أنه يحمل دون شك مشروعه للمنطقة. ذلك في حين ينشط الروس والأوروبيون بدورهم لتدارس وضعهم في لعبة الشطرنج القديمة – الجديدة.
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/2804b8dc-b53d-4d23-b21b-9de327f216d1