وفي هذا السياق الواضح، كان الرجل يميز بريطانيا عن بقية أوروبا: «البريطانيون شعب أوروبي، لكنهم يعيشون على إيقاع الدائرة الإنجليزية» – بوضوح الانكلو ساكسوني غير الإغريقي اللاتيني. وإذا كان الأخير يعيش حلم الاستقلالية – السيادة ورفض التبعية لأي من القطبين، فإن الثاني يعيش تبعيته للولايات المتحدة بشكل ملتبس: هي تتبعه ثقافياً، وهو يتبعها سياسياً. وبمنظار تاريخي، ظلت معركة الاستقلالية الأوروبية قائمة، إلى أن حل جزؤها الشرقي بسقوط الاتحاد السوفييتي، ولكن ليقوي ذلك الهيمنة الأمريكية على الجميع. انتهى حلم الاستقلالية بنهاية حكم شرودر ومجيء ميركل في ألمانيا، وبانتهاء جاك شيراك (علماً بأنه ركع قبل النهاية بقليل) ومجيء ساركوزي، في فرنسا. عام 2008 قال لي هيوبرت فدرين وزير خارجية ميتران الأسبق: «اليسار لم يعد يساراً، واليمين لم يعد يميناً».
مع ساركوزي عادت فرنسا إلى الأطلسي، ومع ميركل مضت ألمانيا حداً بعيداً في الأمركة. غير أن الأهم في هذا التطور التاريخي أن أوروبا الموحدة انتهجت النهج النيوليبرالي الأمريكي بأبشع صوره، وانتهجت معه ونتيجة له أمرين خطرين:
الأول هو اعتماد هيمنة الأثرياء على الدول وعلى الشعوب، بحيث خسر فقراء هذه الأخيرة الكثير من مكتسباتهم، وازدادت بطالتهم وفقرهم، اما من حاول التمرد فليس أمامه الا سياسة ثأرية تمارس أزاء أي خيار شعبي، كما حصل مع اليونان ومع إسبانيا، لدرجة جعلت معلقاً فرنسياً يكتب: هل هي عقدة ميركل ابنة ألمانيا الديمقراطية إزاء اليسار، تدفع ثمنها اليونان؟ الثاني وهو متلازم مع الاول: الابتعاد عن الديمقراطية الشعبية في الشأن السياسي الدستوري: يرفض شعبان الدستور الأوروبي، فتقره، في لشبونة، نخبة المتحكمين في الاتحاد، على شكل معاهدة ملزمة لا رأي للشعوب فيها.
الآن ترتسم الأسئلة حول المستقبل، سنتان أمام بريطانيا والاتحاد لتنفيذ عملية الخروج، وهي عملية لم تنظمها المادة الخمسين من دستور الاتحاد، التي خصتها. السؤال الأول يدور حول الشكل الذي ستتخذه العلاقة الجديدة، أهو النموذج النرويجي؟ أم السويسري؟ أم سنرى نموذجاً جديداً؟
لا شك في أن نقاشاً ثرياً سيدور في المملكة المتحدة قبل التفاوض مع الاتحاد. ولكن هل ستبقى المملكة متحدة؟
من جهة أخرى: أية سياسة سيتبنى الاتحاد؟ سياسة ترسيخ توسيع التوسع وتجديد السياسات، كما يرى معسكر يقوده فرانسوا هولاند الذي دعا إلى التركيز على الجوهري، الاستثمار في النمو والعمل، التناغم الضريبي والاجتماعي، تدعيم منطقة اليورو وحاكميتها الديمقراطية. أم سياسة الحذر والتحفظ كما ترى ميركل التي دعت إلى أن يتصرف السبعة والعشرون المتبقون معاً، بهدوء وتصميم، وأصرت على أنها لا تريد أن تسمع عن حلول سريعة ستقسم أوروبا أكثر؟
اصطفافات تثير السؤال الذي يحاول المسؤولون الأوروبيون تجنبه: أهو اصطفاف اليمين في مواجهة اليسار (يسار الوسط بالطبع)، في حين تواجه ميركل أزمتها مع البافاريين؟
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/b7a96573-0245-4aec-b62a-3251e042b47f