قيمتان تحرران الإنسان وترتقيان به بامتياز: الدين والفن. ومجالان يشكلان حجر الأساس في بناء الشعوب: الإعلام والتعليم (التربية والتعليم).
ثنائيتان لو استقامتا في مجتمعاتنا لتغير الكثير من واقعنا المزري ومن تدفق أجيالنا إما باتجاه أصولية عمياء تقوم على غسل الأدمغة وشطب القلوب، وإما باتجاه تفاهة عمياء بدورها، تدك سلم القيم التي قامت عليها ثقافتنا، لا لتصلح ما فيه من ثغرات بغية النهوض والتطور وإنما لإحلال سلم قيم مجنون لا يحمل إلا التفاهة والسطحية ولا يسجد لقيمة إلا قيمة المال (كيفما جاء) والشهرة (كيفما تحققت وبأي ثمن)، بحيث تتكسر كل القيم المجتمعية الأخلاقية الأخرى وترخص على عتبتهما.
بات من المألوف أن يحمل لنا الإعلام دموع الأطفال في عالم قضى الشر على طفولته، لكننا مؤخرا رأينا مرتين دموعاً ذات دلالة خاصة: دموع الفتاة المشاركة في برنامج «ذي كوين» ، ودموع الأطفال المدانين بالذنب والمطلوبين للتوبة في إحدى مدارس غزة. حربان نفسيتان تشنان على أطفال في الإعلام وفي التعليم، والنتيجة طفل مشوه لا يشبه حلم أجدادنا بأحفاد أكثر حرية وانفتاحاً وتطوراً. قد يقال إنني أربط بين حادثتين لا وجه شبه بينهما: بلى! إنها عملية استغلال سلطة ما على مساكين ما وعملية تشويه وسيلة فعالة ونبيلة أساسية في بناء المواطن.
وكي أركز على تخصصي أذكر بأننا، ومنذ ظهور ثورة الفضائيات في عالمنا العربي، كنا نحذر من التأثيرات الخطرة التي تخلقها برامج التسلية المتروكة لجشع المستثمر وجنون النجومية وتهافت اللجوء إلى أرخص وأخطر الوسائل للعب على غرائز الجمهور. أنا واحدة من الخبراء الأخصائيين الذين ملأوا دور النشر والصحف والشاشات دراسات ومقالات ونداءات للتنبيه إلى أن خطورة هذه البرامج تفوق خطورة البرامج الإخبارية التي يعتقد الجميع أنها الأخطر. تلك قد تخطئ وقد تشوه في الحدث المباشر والسياسي، أما هذه فتبني أو تحطم سلم قيم كامل لترسي مكانه آخر. تفعل ذلك كالنعاس وتسري كالسم. وفي حالنا – وللأسف، فإنها بأغلبيتها لا تحطم ما في سلم قيمنا من سلبيات لتطوره نحو الأفضل، وإنما تحطم كل ما فيه من إيجابيات عريقة لتقيم مكانها فوضى قيم سلبية هجينة ومدمرة. مستغلة مشاكل الشباب وغرائزهم وتطلعاتهم المراهقة. تخلق لديهم انبهاراً بنموذج مشوه فتوقاً له، ثم تعمل على استغلاله.
لقد سبقنا إلى ذلك علماء غربيون من مثل الآن كوتا، حامل جائزة نوبل للاقتصاد الذي ركز على تحطيم العديد من هذه البرامج لقيمة العمل والإنتاج، عبر تقديم صيغ توهم الشباب بإمكانية الوصول بلعبة ما إلى ما يحتاج إلى جهد متراكم لسنين. واعتبر العالم الإيطالي أن بناء سيكولوجية كهذه هو أقصر الطرق الممهدة للفساد. في هذا السياق نفسه طالما نبهنا إلى الآثار الخطرة لصور البذخ المبالغ فيه في برامج عادية، ومن قبل أشخاص لم يكونوا بالأمس شيئاً، ولم يبذلوا جهداً وإنجازاً موازياً لما هم فيه، وبشكل خاص أساطير ثراء الفنانات المالي والتبجح على شاشات يحضرها ملايين الشباب الذين يعيشون في الفاقة أو الكفاف. هنا أيضاً لا بد من التطرق إلى تفاعلات نوع آخر من الكبت الذي ينجم عن المبالغة في المظاهر الإباحية والإثارة على شاشات موجودة في كل البيوت ويشاهدها ملايين الشباب في مجتمعات لا تسمح ثقافتها بالحريات الجنسية، ولم تعد ظروفها الاجتماعية تسهل للشباب أمر الزواج. قلت لم تعد، لأن طغيان العقلية الاستهلاكية المرضية لم يترك للزواج معنى بناء أسرة بتكافل أسرتين، وإنما أصبح فرصة ابتزاز حقير متخلف وبحث مجنون عن مظاهر لا معقولة يعجز عنها الكثيرون.
لا يمكن لمساحة مقال أن تغطي معضلة الإعلام هذه – خاصة الفضائي- ولكن قد ينفع التذكير بثلاثة من الأدوار الكثيرة التي أناطتها – تاريخياً – المجتمعات الكبرى بوسائل الاتصال الجماهيري:
عندما تأسست المدرسة الأمريكية في نظريات الاتصال في الولايات المتحدة (في جامعة شيكاغو) سميت بالوظيفية، ووضعت على رأس قائمة وظائف الاتصال مسألة: الاندماج الوطني.
عندما عارضت المدرسة الألمانية خط شيكاغو، كان من بين ما ركزت عليه خطر ما سمته: «السعادة المغشوشة» في الموسيقى والفنون.
عندما نزلت المدرسة البريطانية إلى هذا المعترك من معهد بيرمنغهام كتب أحد كبارها، تييري ايغلتون يدعو إلى «حملة أخلاقية وثقافية… إلى الذهاب إلى المدارس والجامعات والنضال فيها، عبر تدريس الآداب، في سبيل تقديم إجابات غنية مُعقدة ناضجة هادفة وجادة أخلاقياً تسمح للأفراد بالبقاء في المجتمع الآلي، مُجتمع المسلسلات التافهة والعمل المُغرب والدعايات البلهاء والميديا المُخبلة للجماهير».
أسوق هذه الأمثلة لأسأل: أين مدرستنا نحن العرب؟ وماذا نريد من إعلامنا ومدارسنا؟ أن تفرخ «دواعش» بطريقة أو بعكسها؟
سؤال يحيلني إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الواعون من الجمهور إزاء هذه الموجة المدمرة، بدليل حملة الهاشتاغ على برنامج «ذي كوين» وأثرها ما أدى إلى توقيفه. كما يمكن أن تدعمه شخصيات مستنيرة وأصيلة في أعلى الهرم من مثل ما سمعناه بشأن البرنامج.
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/e4479c46-7ef6-42cd-9d1e-59279c31b7ae