دولة تحل أزمتها الاقتصادية ببيع بضاعتين: صناعاتها العسكرية وصوتها كعضو دائم في مجلس الأمن. إرث مزدوج تركه لها شارل ديغول بعد الحرب العالمية الثانية. من دون أن يلتفت الفرنسيون الجدد، من يسار فرانسوا هولاند إلى يمين نيكولا ساركوزي، إلى الفكرة المعينة عن الجمهورية التي كان يصر عليها الجنرال، وكان جان بيير شفينمان آخر تجليات هذا الإصرار خلال حرب العراق الأولى.
مليارات ثمينة من صفقات الأسلحة تنقذ رأس الاقتصاد الفرنسي من الركود. بحيث لا يبدو من باب الصدفة أن يأتي تهديد «داعش» لفرنسا بعمليات جديدة متزامناً مع زيارة فرانسوا هولاند إلى الهند، وزيارة روحاني إلى باريس. فالزيارة الأولى تتمحور حول الدعم السياسي لمفاوضات صفقة شراء ستة وثلاثين طائرة «رافال». تعرضها شركة «داسو» بأحد عشر ملياراً ونصف المليار، وتطلبها الهند بتخفيض يصل إلى عشرين في المئة. إضافة إلى وضع قدم ما في المحيط الهندي، هذا الإطار الجيوبوليتيكي الذي أعلنت الولايات المتحدة أولويته على أجندتها الخارجية منذ بداية عهد أوباما.. من دون أن يكون هذا الخيار مجرد خيار للرئيس الأسمر، أو حتى للحزب الديمقراطي، بحيث إنه سيبقى خياراً لأي رئيس جمهوري يحتمل فوزه.
فأمريكا فوق رؤسائها، كما هو حال جميع الدول المتحضرة في العالم. خاصة أن الرئيس الهندي هو صاحب الشعار المعروف: الجيران أولاً. ما يعني عمله الحثيث على تشكيل جبهة آسيوية لا تستعدي الصين، ولكنها توازنها.
أما الزيارة الثانية، فقد بدأت الصحف الفرنسية نفسها تهلل لصفقة 114 طائرة إيرباص سيتم توقيعها خلالها. والواقع أن باريس لا تهلل فقط لهذا المعلن، بل لما تبقى من الاحتياجات الإيرانية، حيث تحتاج طهران إلى أربعمئة طائرة للمسافات البعيدة، ومئة طائرة للطيران الداخلي. إضافة إلى إصلاح نظام المطارات حيث تضم البلاد تسعة وسبعين مطاراً، يعمل منها فقط تسعة مطارات. وما كل ذلك إلا نموذج لما تحتاجه البنى التحتية الإيرانية. وإذا كان الفرنسيون لا يعولون على الحصول على عقود تطال الاحتياجات المتبقية من الطائرات، لأنه من المنطقي أن طهران ستوزعها، فإن لهم أن يعولوا على معدات وخدمات أخرى لا تقل عن المليارات، في بلاد تضج بالثروات وتحتاج كل بناها التحتية إلى بناء. والمثال أن صفقة واحدة لتفعيل سكة خط حديدي بين مشهد وطهران قد أعطيت للصين بقيمة ملياري دولار.
في فيينا، وفي المرحلة الأخيرة من المفاوضات النووية مع إيران، برز الصوت الفرنسي كأكثر الأصوات تشدداً وحدة، ثم بدا تفاوت بين صوت فرانسوا هولاند وصوت وزير خارجيته، ويومها كتبنا في هذه الزاوية أنه صراع اللوبي اليهودي مع الشركات، ولعله فن المزايدة لمصلحة الشركات. لم نكن بالطبع نعرف الثمن الذي كانت تريده باريس، ثمناً لعدم استعمال الفيتو في مجلس الأمن، وإن كان تغيير لوران فابيوس للهجته بين ليلة وضحاها قد أثبت أن المساومة قد أدت إلى نتيجتها. وها هو أول الغيث.
كذلك في مصر، لم يكن الإخوان أعداء فرنسا، بل إنها كانت تستقبلهم في مجلس الشيوخ منذ 2008، ولم يكن تأييدها لعهد الرئيس السيسي حبا ب«العلاقة المسيحية الإسلامية»، بل بما جنته، وبما أثبتت الأحداث من مخاطر تتهدد أوروبا في قلب عواصمها.
المهم في هذه النماذج وغيرها الكثير، أن السياسة الفرنسية لم تعد تتحدد إلا بسياسة السوق. صحيح أن المبدأ الثابت في العلاقات الدولية هو أن هذه العلاقات هي علاقات مصالح. ولكن كثيراً ما كانت هذه تتزاوج مع مصالح سياسية وخطوط مبدئية تتمثل في فكرة كل دولة عن نفسها وعن العالم. هذا الشق الثاني يختفي من المشهد، لنقول إننا في عصر السوق والعولمة قد دخلنا في دائرة لا تعرف إلا البيع والشراء، وبهما يجب أن تفهم كل الصراعات والعلاقات.