الجدل العام يبداً دائماً في الدوائر الضيقة ثم يخرج إلى الساحة العامة. وهذا ما حصل في بلاد كثيرة منها فرنسا مثلاً حيث كانت حرية الجدل العام مقتصرة، قبل الثورة، على الجمعيات المغلقة والنخب، ولم يكن ليسمح بعبورها إلى الفضاء العام. لكن ذلك لم يمنع من تطورها ووصولها إلى ما وصلت اليه. قد لا تكون المقارنة دقيقة إلا للاسترشاد. حيث إن الجدل العام قد عرف العبور إلى الساحات العربية في القرن الماضي، لكنه اصطدم دائماً بالقمع وبما هو أبشع من القمع أي التسطيح والتتفيه، بل ولنقل التجهيل، مما أفسح المجال لانتشار الفكرالأصولي بمداه الأقصى: الإرهابي التكفيري، من دون أن نغفل العوامل الأخرى من اقتصادية، اجتماعية وسيكولوجية، بحيث يتمثل السيكولوجي بآثار العاملين الأوليين لكنه يتأثر أكثر بعامل الإحباط العام والهزيمة القومية. شعور حفر عميقاً بعد تساقط وسحق الأقطار العربية، بدءاً من فلسطين وليس انتهاء بالعراق، وصولاً إلى التدمير الذاتي في الأقطار التي ضرب فيها طاعون الربيع العربي تطلعات التغيير الصادقة. وضرب بقوة لصالح ضياع الهوية. لتتشكل في كل هذه الأجواء سيكولوجية التوتر التي تحدث عنها العالم الاجتماعي سيلي، قائلاً إن الفرد يعيشها حتى ولو لم يعها.
باختصار، فراغ الفكر يؤدي إلى التعصب المجرم، وفراغ الحوار يؤدي إلى كراهية الآخر، وغياب الحس القومي يؤدي إلى التفكك ولجوء الأفراد إما إلى انتماءات تجزيئية يدمر واحدها الآخر، وإما إلى هرب باتجاه انتماءات انفلاشية تبحث جمع الشراذم. ليأتي من يوظف كل ذلك في استراتيجيات تفكيك هذه الأمة وتدميرها. ويصل الأمر بالناس حد الخروج على الإنسانية، وعلى الحياة نفسها. أين المؤسسات الثقافية التي تقاوم كل ذلك؟ أين الحوار وبناء النموذج من جديد ووفق تطور في مسألة قبول الآخر في الوطن، في إطار الأولويات والثوابت القومية والوطنية، وفي مسألة باب الجدل الفكري التطبيقي بين مختلف الأطراف.. من دون أن ننسى الحيز الضروري المحجوز للشباب، وللمرأة – لا باعتبارها امرأة، ( كوتا) ما، ولكن باعتبارها تمثل خطاً ما، فكراً ما، موقفاً ما.
كل هذا طبقته ندوة بيروت من دون افتعال ودون ضجيج، وبتحضير مسبق جدي استغرق خمسة أشهر. وإذا كان ذلك يعتبر أمراً منسجماً مع طبيعة مركز دراسات الوحدة العربية وما يتفرع عنه من مؤسسات وكل ما يصدر عنه من إصدارات. فإن السؤال المطروح هنا هو: هل كان المركز قادراً على أن يؤمن كل ما أمّنه لو لم يكن مركزاً مستقلًا مبدئياً وحدوياً؟ غير أن كونه كذلك يطرح بصراحة مشكلة التمويل: لقد أمّن المعهد السويدي بالإسكندرية جزءاً من تمويل هذه الفعالية، ولكن من يؤمن الاستمرارية في الفعاليات وفي النشر، سواء في البحث العلمي الأصيل والحر، أم في الترجمة والصحافة العلمية، فيما تحتاج اليه الساحة العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى؟ أليس علينا، كأفراد ومؤسسات خاصة، أن نفكر أكثر بالجهات الفاعلة في مقاومة التكفير والتفكيك، بالتنوير والفكر والكلمة؟ أن نوازن الآلاف من مرضى النفوس الذين يرسلون تبرعاتهم السخية للمنظمات الإرهابية؟
قد يقال إن ندوة فكرية شاملة، قومية وعميقة قد مرت من دون أن تلتفت إليها شاشة إلا عبوراً، فيما احتل تفجير برج البراجنة كل الشاشات والوسائل. وقد يقال إن الكلمة والفكرة والحوار، كلها لم تعد قادرة على مواجهة الإرهاب. لكن من الماء ما يفيض وينحسر ومنه ما ينسل بهدوء ويحفر أخاديده العميقة في جوف الأرض… لا خيار!!
د.حياة الحويك عطية
إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.