د. محمود السعدي، مراجعة نقدية لكتاب الفضائيات الإخبارية العربية بين عولمتين: جيوبوليتيك وخطاب الفضائيات الإخبارية العربية

شهادات، 07-08-2015

ملاحظاتي النقدية حول العمل قيد المراجعة تتوزع على محورين أساسيين: في المحور الأول سأعطي وصفاً موجزاً للكتاب من حيث المادة والنسق والنتائج. أما المحور الثاني فسأخصّصه لاستقراء القيمة المعرفية الحقيقية للعمل ضمن سياق نتاجات بحثية مشابهة. بعد عرض هذين المحورين، سأنهي بإعطاء كليمات قليلة حول نواقص هذا العمل، إن وُجدت، وكيف كان بالإمكان تجاوزها.

أولاً: في وصف الكتاب، مادةً، نسقاً، نتائجاً:

انهيار الإتحاد السوفييتي دفع إلى الوجود بنظام سياسي عالمي جديد ذي قطب واحد يسعى جاداً لفرض هيمنته على العالم (سياسياً واقتصادياً وثقافياً) تحت عناوين متعددة مثل العولمة والدمقرطة واللبرلة وحقوق الإنسان. وفي ذات الحقبة ولذات الأسباب، شهد العالم ايضاً تبلور وتجذّر نظام اتصالي إعلامي “مرئي” جديد يتميز بقدرته على تجاوز، وبسرعة فائقة، كل الحدود، جغرافية، سياسية وتراثية ولغوية. قدرة النمط التواصلي الإعلامي الجديد لا تنحصر فقط في سرعة نقل الخبر عبر كل الحواجز، بل أيضاً في القدرة على صياغة والترويج لرواية سياسية دائمة الحضور وذات قدرة درامية أعلى في التأثير على المتلقي نظراً لطبيعتها المرئية.

ساحة الإعلام العربي لم تكن بمعزل عن تلك المستجدات في حيثيات وتقنيات صناعة الإعلام على المستوى العالمي في حقبة القطب الواحد. فقد واكب تلك المستجدات تغيرات على الساحة الإعلامية في العالم العربي تبدو في الظاهر جذرية من حيث التقنيات والشكل والمضمون. هذه التغيرات جسّدتها نشأة ظاهرة الفضائيات العربية—إخبارية وترفيهية ومختلطة، والتي تتمتع بسقف أعلى من حرية التعبير في شتى المجالات، سياسية كانت أم إجتماعية أم دينية.

الولوج المتزامن لهذا النمط الإعلامي على المستوى الإقليمي والمحلي طرح أسئلة كثيرة حول ثنائيات كثيرة كثنائيات الإعلام والحرية، الإعلام والحقوق المدنية، والإعلام والتغيير في الوطن العربي بشكل عام. أسئلة على غرار: كيف لنا أن نقرأ جدلياً ما جرى من تغيير على الفضاء التواصلي والاعلامي على الساحة العربية في تلك المرحلة، إذا أخذنا بعين الاعتبار عدم حدوث أي تغيير بنيوي جذري مواكب في النظام السياسي العربي الحاضن والممول للنمط الجديد من الإعلام الجماهيري قد يفسر أو يبرر مثل هكذا تغيير؟ وهذا هو سؤال البحث الرئيس لهذا العمل والذي من خلاله تقارب الدكتورة حياة الحويك علمياً وباقتدار شديد اشكالية التغيير في الوطن العربي في عصر الهيمنة الأمريكية في هذا المؤلف الضخم نسبياً والمهم بالمطلق:  الفضائيات الإخبارية العربية بين عولمتين: جيوبوليتيك وخطاب الفضائيات الإخبارية العربية (صادر عن: منتدى المعارف، بيروت، 2013).

وكما هو واضح من اسم الكتاب، فمقاربة المُؤلفة لإشكالية التغيير في الوطن العربي مُستمدّة من ومبنية بالأساس على معطيات جيوبوليتيكا الفضائيات التلفزيونية (فضائيات الجزيرة، أبو ظبي، العربية والمنار، تحديداً)، والتي تمّ توظيفها لغرض موضعة سلطة الإعلام بين سلطتي مُتَغيري المكان (الجغرافيا) والزمان (المصالح السياسية). إلى جانب جيوبوليتيكا الميديا كإطار نظري-منهجي، يستند البحث أيضاً على استقراء نقدي للخطاب الإعلامي لتلك الفضائيات إزاء قضايا وأفكار ذوات دلالات جوهرية من شأنها تظهير الإصطفافات السياسية والإيديولوجية لتلك الفضائيات (على سبيل المثال لا الحصر: الصراع العربي-الصهيوني، الإحتلال الأمريكي للعراق، مفاهيم مُجرّدة مثل الأنا، النحن، الهوية، السيادة الوطنية، بالإضافة إلى منظومة من القضايا والأفكار التي تمّ أُقصاؤها أو تهميشها من قبل تلك الفضائيات). ومن الجدير بالملاحظة هنا أن البحث، وإن كان نوعياً بامتياز، إلا أنه مُدعّم بكمّ هائل من البيانات—جداول، مواد أرشيفية، مادة تاريخية، عشرات اللقاءات، احصاءات، متابعة ميدانية حثيثة ومباشرة. إلا أنّ الكاتبة قد نجحت تماماُ بتوظيف الكمّ، رغم غزارته، في خدمة أغراض البحث النوعي متجنبة بذلك احتمالية الوقوع في شِباك كمومية ادعائية وعبثية.

يقع الكتاب في أكثر من خمسمائة صفحة موزعة على اثني عشر فصل ضمتها ثلاثة أقسام مستقلة ومتكاملة، مضافاً لها خاتمة توجز فيها الكاتبة موضوع ومنهجية البحث ونتائجه. القسمان الأول والثاني للكتاب متداخلان مادةً ووظيفةًً، إذ يبرهن كلاهما، تراكمياً ومن خلال زاوية نظر خاصة بكل منهما، على وجود ارتباط تاريخي، عضوي ووظيفي بين نشأة الإعلام العربي بشكل عام والفضائي المرئي منه بشكل خاص، مع إرادة الهيمنة لدى أطراف وقوى سياسية فاعلة، محلية كانت أم إقليمية أم عالمية. لهذا الغرض، تصف الكاتبة بانورامياً في القسم الأول المشهد السمعي- البصري الفضائي بالمشرق العربي للفترة الحساسة سياسيا ووجودياً والواقعة بين العامين  1990 و 2004. في الفصل الأول من هذا القسم، ولغرض تحديد طبيعة التأثير المنشود من قبل تلك المحطات على المشاهد العربي (تأثير مباشر وآني للمحطات الإخبارية يقابله تأثير غير مباشر وبعيد المدى لمحطات المنوعات أو مزيج من هذا وذاك للمحطات “المرنة” ذوات الطبيعة المختلطة)، تلقي الكاتبة نظرة مشهدية على أكثر المحطات والباقات الفضائية العربية أهمية من حيث: 1) تواريخ الإنشاء، الجنسية، المقر والطبيعة؛ 2) هوية المالكين ومصادر التمويل؛ 3) الرؤية الناظمة والفلسفة الحاكمة اللتان تقفان خلف إنشاء تلك المحطات وتشكلان السياسة الإعلامية لكل منها. في الفصول الثلاثة المتبقية من القسم الأول ينتقل التركيز من السياق العام إلى سياق أضيق إذ تركز الكاتبة على المحطات الأربع الأكثر انتشاراً (الجزيرة، أبو ظبي، العربية، المنار). وفي هذا السياق الأضيق تستكشف الكاتبة بنية كل من تلك المحطات محددة كيف تنظر كل منها إلى نفسها وكيف ينظر اليها الآخرون، علاوة على الموارد البشرية (الشبكة المسيطرة، المذيعون والصحافيون) والتركيبة البرامجية وكيفية توزيعها ودلالات نوعية وتوزيع تلك البرامج.

القسم الثاني من الكتاب يُشكّل القلب النابض للبحث؛ ففيه تتحدث الكاتبة، بالتفصيل والإسهاب الضروريين (190 صفحة)، عن جيوبوليتيكا الميديا واصفة القنوات الفضائية (ترفيهية كانت أم إخبارية) كخاصية من خواص النظام العالمي الجديد و”ترجمة إعلامية” له. تدافع الدكتورة حياة عن هذه الفكرة، المقبولة تماماً من قبل الكثير من الباحثين والمراقبين، بطريقة منهجية منظّمة، إذ تُعرّف القارئ على ثلاثة سياقات ذات مركز واحد تشهد، بالتعاقب والتداخل وبناءً على معطيات تاريخية، جغرافية وسياسية، على اقتران الإعلام الفضائي وجودياً ووظيفياً بأنظمة وكيانات سياسية مُهيمنة تسعى جاهدة لغرس وتطبيع (أو محاولة تطبيع) منظوماتها القيمية وما يواكبها من أطر تفسيرية في وعي المتلقّي والتي من شأنها دفعه (أو محاولة دفعه) نحو تقبّل تلك الأنظمة والكيانات ومنظوماتها المعرفية كضرورات وجودية، سواء على أسس براغماتية أو دوغماتية. تجلّيات هذه الأسس ومعانيها هي ما تركّز عليه المؤلفة في القسم الثالث من الكتاب.

فبعد أن دافعت الكاتبة جيوبوليتيكياً في القسمين الأول والثاني من الكتاب عن فكرة كون الفضائيات العربية مجرد “ترجمة إعلامية” لمشاريع ورؤى سياسية للأنظمة والكيانات الممولة والراعية لتلك الأجهزة الإعلامية ، انبرت في القسم الثالث للكتاب لمهمة تقصّي وعزل التجليّات النصوصيّة لتلك “الترجمة الإعلامية.” من أجل هذا الغرض، قامت الباحثة بعملية تفكيك للخطاب الإعلامي لتلك الفضائيات وحلحلة نسيج رواية “الثقافة الديموقراطية” القِشْرية والعائمة على سطح المادّة الإعلامية لغالبية تلك القنوات. ومن الجدير بالإهتمام هنا هو ما قامت به الكاتبة من توسيع ضروري ومبرر لمساحة النص من خلال تجاوز حدود المادة الإعلامية المعروضة لتشمل ما هو غير موجود، أو ما أسمته المادة المُغَيبة أو المُهمّشةً، لما للتغييب أو التهميش من مدلولات جوهرية لا غنى عنها في عزل المعنى والهدف الحقيقيين من وراء المادة الإعلامية. وهنا يتقاطع ما هو ماكروي بما هو مايكروي، ما هو سياقي بما هو نصوصي؛ بمعنى تقاطع وتكامل نتائج التحليل الجيوبولوتيكي مع نتائج تحليل الخطاب من حيث البرهنة على كون أجهزة الإعلام الفضائية العربية استجابة سياسية ضرورية لما تواجهه الانظمة السياسية من تحديات في عصر العولمة وهيمنة القطب الواحد وما واكبهما من تعميق الشرخ الفاصل بين إرادتين ومنظومتين معرفيتين متناقضتين: إرادة البقاء والإستمرار والهيمنة لدى الأنظمة القائمة مقابل إرادة التحرر والحرية والعدالة لدى الجمهور العربي الواسع والتي تشكّل تهديداً مباشراً لمصالح تلك الأنظمة القمعية. بهذا المعنى فالفضائيات العربية، في مجملها، ليست أكثر من آلية هيمنة جديدة على وعي الجمهور وخياراته تتناسب ومعطيات عصر سياسي جديد ذي معطيات وتحديات جديدة، عصر الهيمنة الغربية وعرّابها القديم المتجدد في المنطقة العربية: حكم أتوقراطي هو الآن ذو قشرة ديموقراطية ليبرالية ومدعومٌ بخطاب إعلامي فضائي يبدو ذا سقف أعلى من الحرية لا لغرض سوى لجم جماح الجمهور العربي المُستَفَز والمُستنفَر (سياسياً، اقتصادياً، أخلاقياً) من خلال خلق شعور زائف لديه بالتحرر والإصلاح السياسي.

في الخاتمة، تنهي الكاتبة بحثها بالتذكير بإشكالية البحث الرئيسة وموجباتها وبعرض أخير وموجز لنتائج البحث. كل هذا ظهر جليّاً في اختيارها الموفق لمقدمة الخاتمة إذ تقتبس العبارة التالية لبريزينسكي:

“’بعد عصر المدفعية وبعد عصر التجارة والمال، باتت تقنيات الإتصال وشبكاته تمثل الجيل الثالث من هيمنتنا على العالم.’” (ص473)

هنا تضع المؤلفة “ثورة” تقنيات الإتصال في سياقها التاريخي الوظائفي الصحيح كامتداد عضوي لإرادة الهيمنة: فإذا كانت الهيمنة الثقافية هي متلازمة إرادة الهيمنة السياسية، فإن الإعلام هو الحاضنة المترجِمة لتلك الإرادة. وبينما ظهرت هذه الفكرة المحورية (توظيف الإعلام الفضائي كآلية هيمنة) في مقدمة الكتاب كفرضية، فإنها تظهر هنا كنتيجة رئيسة للبحث، كما يظهر جلياً في تعليق الكاتبة على عبارة بريزينسكي:

“أن تهيمن على العالم يعني أن تهيمن على ثلاث: أولاً، الفضاءات والمواقع الجيوستراتيجية، ثانياً، الثروات الطبيعية، وبخاصة موارد الطاقة على امتداد الكرة الأرضية، وثالثاً، الأفكار، هيمنة لا يمكن أن يخرج عنها السؤال المركزي لهذا البحث: أي تغيير؟” (ص473)

إذاً، تتسائل الكاتبة، عن”أي تغيير” نتحدّث؟ تجيب الكاتبة على هذا السؤال المركزي للبحث بأن تغييراً كالذي طرأ على ساحة الإعلام العربي لا معنى له خارج سياقه الطبيعي؛ إذ تشير جملة من العوامل الجيوسياسية إلى توظيف الأنظمة والكيانات السياسية للإعلام الفضائي فيما يخدم أهدافها ويضمن بقاءها وديمومتها، سيما في غياب أي تغيُّر بنيوي حقيقي في النظام السياسي العربي. هذا الاستنتاج يظهر في الصياغة الإستنكارية التي أوردتها الكاتبة مستعيرة سؤالاً طرحه خبيرا إعلام عربيان:

“إذا كان مالك المحطات الإخبارية هو النظام الرسمي، فعن أي دور سياسي يمكن أن نتحدّث؟! الأحرى بنا أن نبحث عن الإقصاء والتلاعب.” (ص474)

هذه الحقيقة الماكروية لها ما يدعمها على نطاق أضيق، إذ تستنتج الباحثة متحدثة عن المحطات الأربع محل البحث (الجزيرة، أبوظبي، العربية، المنار) في أنها تشترك بحقيقة كونها “ذراعاً إعلامية لجهاز دولة أو حزب سياسي….” (ص475) و”وسيلة لتأكيد الحضور والدور.” (ص477) وفي تفسيرها لهذه النتيجة تستدعي الكاتبة إحدى أهم نتائج التحليل الجيوبوليتيكي مؤكدة أنه:

”إذا كانت حاجة الإمبراطورية للبقاء تفرض الهيمنة على المناطق الاستراتيجية وفي مقدمتها الدول النفطية والشرق الاوسط، فإن حاجة الأنظمة العربية الغنية للبقاء تفرض عليها التكيف مع العولمة ومتطلباتها، ومن هذه المتطلبات: مجتمع الإتصالات.” (ص476)

إذاً فالفضائيات العربية المدعومة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من قبل رسميات عربية هي آلية تكيف تلك الأنظمة العربية مع تحديات ومتطلبات العولمة. وهذا ما تدعمه نتائج ومدلولات تحليل مضمون وخطاب برامج الحوار لتلك القنوات الفضائية؛ وفي هذا السياق تستطرد الدكتورة حياة الحويك مركزة على مدلولات الكيفية التي تعاطت بها تلك الفضائيات مع فكرة الثقافة الديموقراطية مقررةً:

“لإننا نؤمن أن التغيير لا يمكن أن يبدأ إلا بثقافة ديموقراطية ولا يمكن أن يتجذر إلا بها، وإلا فإن كل الأشكال والتدابير تقف عند حدود تغيير في الشكل يحل سلطة لا ديموقراطية محل سلطة لاديموقراطية ويرسي وهم تحقق ديموقراطية افتراضية تعيق بناء الديموقراطية الحقيقية.” (ص478)

هنا تضعنا الكاتبة وجهاً لوجه مع لحظة تاريخية فارقة أجبرت الأنظمة السياسية القائمة على التعاطي مع آمال ومطالب لشعوبها نضجت على نار الاستبداد والطغيان السياسي وغدت تشكل تهديداً وازناً لبقاء وديمومة تلك الأنظمة. لذا ولاحتواء هذا الخطر، لجأت تلك الأنظمة لسلسلة من الإجراءات كتقديم أطر “ديموقراطية افتراضية” من خلال قنوات فضائية تحمل وهم التغيير. عملية إرساء أسس ل “ديموقراطية إفتراضية” مُضَللة يؤكدّه، كما برهنت الباحثة، غياب، بل تغييب، مفهوم جوهري كمفهوم “السيادة” مرتبط تماماً بالثقافة والممارسة الديموقراطية. فهذا التغييب المقصود والممنهج لمفهوم السيادة من شأنه إرباك منظومة أخرى من المفاهيم؛ فبغياب السيادة يتهاوى مفهوم “الوطن” وبالتبعية مفهومي “المواطَنة” و”المواطِن.” هنا، كما تجادل الباحثة محِقةً، يندفع الإنسان غريزياً، كما يُراد له من قبل الفئات المهيمنة، نحو أطر تفسيرية أضيق يبحث فيها عن ذاته المفردة—”الأنا”، وذاته الجمعية—”النحن،” ليجدهما في دوائر تمسخ كليهما وتحيلهما إلى دوائر هزيلة وهشّة وغير قادرة على تخليق وإضفاء معنى على وجوده الشخصي والاجتماعي والسياسي؛ دوائر من قبيل الفئة والطائفة والعشيرة والمذهب. وفي فضاء جيوسياسي كالفضاء العربي، تغدو تلك الدوائر الضيقة والمتصارعة منافساً وبديلاً وإجهاضاً لمفهوم الدولة العصرية. وفي مثل هذا الجو وهذا التدافع نحو الدوائر الصغيرة والمتصارعة، تصبح غريزة البقاء هي الغريزة المهيمنة والناظمة لسلوك الجماعة، وكما يصبح من الممكن والمتوقع الدفاع، براغماتياً، عن دولة مشرذمة (دولة الفئة أو الطائفة أو العشيرة أو المذهب) تُقدَّم فيها الرغبة بالبقاء و”الأمن والأمان” على أية رغبات أخرى (كالرغبة في العدالة والحرية والتحرر).  وهنا يصبح من الطبيعي النظر لخطاب الديموقراطية لتلك الفضائيات العربية كخطاب إجهاضي يرمي إلى تزييف واغتيال الوعي الجمعي (لا لخلقه أو تشكيله) وإنتاج ظرف سياسي مواتٍ لاستمرارية هيمنة أطراف محلية (كالسعودية ودول بترودولارية أخرى) وأطراف إقليمية (إسرائيل) وأطراف عالمية (الولايات المتحدة تحديداً).

هنا لا نملك إلا أن نتسائل استهجاناً، تماماً كما فعلت الباحثة: “فعن أي تغيير نتحدّث؟!”

ثانياً: عن القيمة الحقيقية لهذا العمل: التأسيس ل”جيوبوليتيكا مقاومة”

السؤال الآن هو: أين تكمن القيمة الحقيقية لهذا العمل؟

بدايةً فمما لا شكَّ فيه أنّ قيمة البحث تكمن، مبدئياً وجزئياً، في كون نتائجه تبرهن تراكمياُ ومن مرجعية مختلفة على صحة فرضية يتمسك بها ويدافع عنها الكثير من الباحثين والنقاد الذين ينظرون إلى الخطاب الإعلامي كسلطة مرتبطة عضوياً ووظيفياً بالسلطة السياسية القائمة التي تعمل، باللغة وفي اللغة ومن خلال اللغة، كل ما يلزم لتأبيد ذاتها المهيمنة في الفضاء السياسي من خلال احتلالها وسيطرتها على الفضاء اللغوي عبر فضاءات إعلامية. وهنا، وهذا من وحي هذا البحث، يمكننا تمييز مساحتين هامتين في خارطة الخطاب الإعلامي: المساحة الأولى من شأنها اجتذاب وتحقيق التماهي مع المتلقي من خلال ادماج والتعاطي مع أفكار ومواضيع ذات ارتباط وثيق باحتياجات وطموحات المتلقي، كمسائل الحريات الشخصية والسياسية، الديموقراطية، العدالة، التحرر. أما المساحة الثانية من الخطاب فيعرّفها ما تم تغييبه أو إقصاؤه عن خارطة الخطاب الإعلامي. هذا من شأنه خلق سياق خطابي يفرّغ منظومة مفردات مثل “الحرية” و”الحوار” و”الرأي الآخر” و”التعدد” و”الحياد والموضوعية” والتي تعرّف المساحة الأولى، من معناها الحقيقي ويوجهها نحو التأسيس لخطاب إعلامي إجهاضي يؤسس ل”ديموقراطية افتراضية” زائفة لا تشكّل تهديداً لمصالح الطبقات المهيمنة محلياً وإقليمياً وعالمياً.

إن قيمة البحث العلمي، أي بحث علمي، لا تكمن فقط في الإجابة على أسئلة البحث، بل أيضاً بما تثيره من أسئلة لا بد من التعاطي معها. بحث الدكتورة الحويك فعل ذلك بإثارته وبطريقة غير مباشرة أسئلة حول نزاهة وفاعلية الأطر النظرية ومناهج البحث التي تتعاطى مع قضايا أساسية تهم ليس فقط الإنسان العربي بل إنسان “الجنوب” بشكل عام. لذا نجد أن قيمة البحث تتجلّى بتجسيدها لإطار نظري ذي متلازمة منهجية توفيقية ومتصالحة مع منهجيات بحثية متباينة وأطر فكرية مختلفة. فبمقدار ما يتضمنه البحث من مخزون معلوماتي (بيانات، مقابلات، رصد، ارشيف)،فهو يشكّل، إلى حد كبير، عملية نبش ممنهج ليس فقط في اركيولوجيا الجغرافيا السياسية ذاتها، بل في أطر ومناهج بحثية عدة. إلا أنّ عملية النبش هذه، وهذا هو الأهم، وإن استفادت من الإرثين الحداثي وما بعد الحداثي، هي أبعد ما تكون عن كونها استنساخاً أو تبنيّاً لأي منهما. فلا هي علموية ترتكز على موضوعية مزعومة وفجّة ولا هي بذخ فكري يختبئ وراء مقولات البعدبنيوية أو البعدحداثية لينتهي بنا المطاف إلى عبثية شبه قدرية. وهذا ما تجلّى مرة أخرى عندما تناولت الكاتبة بالتفكيك الخطاب الإعلامي لفضائيات مثل الجزيرة والعربية وأبو ظبي. فلقد كان جاك دريدا وآخرون موجودون هنا وهناك؛ إلا أن هذا الوجود مضبوط ومحكوم تماماً بإرادة الباحثة وباحتياجات وضرورات البحث فقط. وهنا تحديداً نبدأ بتلمّس مواطن القوة والقيمة الابستيمية الحقيقية للبحث:

إنّ هذا العمل يذكّرنا إلى حد كبير بالعمل البحثي التأسيسي لإيميل دركهايم “الإنتحار” الذي اشتبك المؤلف فيه مع مادة ومنهجية بحث معترف بها ليس لمجرد توليد معرفة حول موضوعة الإنتحار، ولكن للتأسيس لمجال معرفي جديد ذي مادة مميزة وحصرية (علم الإجتماع). يبدو أنّ هذا هو ما حصل أيضاً مع الدكتورة الحويك، سواء كان مقصوداً كما هو الحال مع ديركهايم، أو غير مقصود كما كان الحال مع ابن خلدون في مقدمته التي أسست، بالمحصلة وعن غير قصد، لفضاء معرفي جديد أيضاً. فبمقدار ما يلقي بحث الدكتورة الحويك الضوء على الإعلام الفضائي فهو كذلك يؤسس لجيوبوليتيكا جديدة من خلال تحريرها من إرثها الإستعماري الإستعلائي (كيفية حيازة القوة لضمان ديمومة الهيمنة الإمبراطورية) بتحريرها من معطيات ماهان أو ماكندر أو ما بينهما والتي ربطت المشروع المعرفي عضوياً ووظيفياً بمقتضيات ومصالح القوى الإستعمارية القديمة (من آخر تجلياتها كتابات صموئيل هنتنغتون وفوكوياما) التي نظرت “للجنوب” داروينياً ككيان شبه بشري قابل للسبي ويتطلب التدخل المباشر (هذا هو قدر و”عبء الإنسان الأبيض”) لغرض الإرتقاء به وأنسنته وإعادة تشكيله بناءاً على منظومة عَقَدية غربية. إلا أن البحث يعكس أكثر من ذلك، فالكاتبة لم تحرر الجيوبوليتيكا بنسختها التقليدية فقط من إرثها الإستعماري، بل تجاوزت أيضاً معطيات الجيوبوليتيكا بنسختها الحديثة—المدرسة النقدية الخجولة والمهذبة التي، ورغم النبرة الإنسانية التحررية لخطابها، ما زالت، بالمحصلة، تنظر للجنوب نظرة وصايوية (كيان يستدعي الإعتراف ببشريته ومؤازرته). ففي هذه الثنائية (شمال / جنوب) ما زال الطرف الأول في الثنائية (الذي استفاق آخيراً واعترف ب “الآخر” (الجنوب)) يشغل حيّز الفاعلية في الخطاب السياسي الغربي بينما يشغل الجنوب حيّز المفعولية تاركاً بذلك المجال لايجاد ذريعة أخلاقية جديدة تشرعن النظرة الوصايوية وتضمن، بالمحصلة، هيمنة القوى الاستعمارية الجديدة في عصر ما بعدالحداثة من خلال خطاب حقوقي (حقوق مرأة، حقوق إنسان، حقوق أقليات) يُروّج له عبر وسائط الإعلام الحديثة (فضائيات، شبكات تواصل اجتماعي).

لذا وعلى ضوء عزل الجغرافيا السياسية بشقيها التقليدي والحديث عن ماضيها الإستعماري فإن هذا العمل يؤسس عبر تعاطيه مع ظاهرة الإعلام الفضائي العربي لفضاء معرفي جديد، لجيوبوليتيكا يتحدّث فيها الجنوب عن نفسه، جيوبوليتيكا فوق نقدية، جيوبوليتيكا مقاومة (بكسر أو فتح الواو)، تماماً كما أسس إميل ديركهايم لفضاء معرفي جديد (علم الإجتماع) عبر تعاطيه مع ظاهرة “الإنتحار” بعد أن عزلها عن محيطها التقليدي (علم النفس)، أو كما فعل ابن خلدون بعد أن أقحم المتغيرات الإجتماعية المتعددة كعنصر أساسي في كتابة وفهم التاريخ.

وهنا يبرز الجانب الآخر من القيمة المعرفية لهذا البحث: نحن ازاء عمل جعل من الممكن والمُتخيَّل  التأسيس لفضاء معرفي جديد (إطاراً ومنهجاً) يحمل في أحشائه نواة منظومة ابستيمية تحررية جديدة ذات شخصية مستقلة تتفاعل مع وتشتبك نقدياً بالمنظومة الابستيمية الغربية. وهنا تحديداً تلتحم المؤلفة باستشراقية ادوارد سعيد التوصيفية دافعة بها إلى مستوى أرقى، نحو استشراقية مقاومة (بكسر أو بفتح الواو)، استشراقية ذات مخالب، استشراقية رحبة تجمع بين أكاديمية إدوارد سعيد الناقد الأدبي  ونزق وعنفوان وجرأة الأديب والباحث الثائر (غسان كنفاني، فرانز فانون، باولو فريري، عبدالوهاب المسيري وغيرهم).  إذاً فالكاتبة في هذا العمل قد تجاوزت حدود استشراقية سعيد، فهي لم تكتفي بتتبّع العملية التي يتمّ من خلالها احتلال الرواية والوعي العربيين—كمتلازمة لاحتلال الجغرافيا العربية، عبر إعلام فضائي ناطق بالعربية بما يخدم أهداف القوى المهيمنة عالمياً، بل سعت أيضاً إلى تحرير تلك الرواية وإعادة كتابتها بقلم يؤمن بالعربية. هذا الفعل من قِبَل الكاتبة يمكن تحسسه من خلال إقحامها لقناة المنار في البحث، وهي الناطق الإعلامي باسم حزب سياسي يمثّل الفعل المقاوِم على الساحة العربية. فإذا أخذنا بعين الإعتبار أن هذا البحث ما كان ليخسر الكثير من قيمته لو استبدلت الكاتبة أو حتى ابعدت كليّاً قناة المنار من خارطة البحث لكونها، على خلاف المحطات الأخريات، غير مرتبطة رسمياً أو غير رسميٍ بأي نظام عربي من حيث التمويل والتبعية السياسية. إلّا أنَّ الكاتبة لم تفعل ذلك من باب ممارسة ما تبشّر هي نفسها به؛ فإذا كانت الفضائيات الرسمية وشبه الرسمية تسعى للتأثير على المتلقي عبر تغييب وإقصاء مواضيع وأفكار معينة (كالمقاومة والسيادة)، فإن الكاتبة لجأت إلى التأثير على المتلقي من خلال استحضار ما تمّ تغييبه أو تهميشه من قبل تلك الفضائيات: فكرتي المقاومة والتحرير. من هذا المنظور فإن حضور قناة المنار في البحث يشير إلى سعي الكاتبة لتحرير الرواية العربية المغتصبة كمقدمة لتحرير الإرادة والجغرافيا المغتصبتين.

وككلمة نهائية، ودون الإنتقاص من قيمة هذا العمل، فقد كان من الممكن إضافة فصل تمهيدي تُقدّم فيه الكاتبة مفهوم وتاريخ ومدارس كل من الجغرافيا السياسية وتحليل الخطاب للقارئ غير المختص لتعينه على التعاطي تاريخياً وجدلياً مع ما تضمنه البحث من فرضيات وتحليلات وما توصل إليه من نتائج. كذلك ولغرض تركيز انتباه القارئ على النقاط المركزية للبحث، كان بالإمكان أيضاً استغلال الهامش بطريقة أفضل وذلك من خلال إحالة قدر من المعلومات والبيانات الأرشيفية التي يزخر بها البحث إليه لإعطاء القارئ حرية الاختيار للرجوع اليها متى شاء أو إن رأى لذلك ضرورة.

 

د. محمود رؤوف السعدي