قبل سنوات زرت كوبنهاغن، وبالطبع ذهبت الى المتحف، لافاجأ بانه يضم قاعة كبيرة مخصصة لتدمر وزنوبيا. حتى في الدانمرك؟!! لا كلام يعبر عن احساس امراة عربية في وقفة كهذه مع اصدقاء اوروبيين.
منذ خمسة عشر سنة وانا اكتب في الخليج ولم اشعر يوما بالعزاء وانا اقرا صحيفتي كما احسست اليوم وانا اقرا “رمزية تدمر” وارى تقييم القراء لها: خمسة نجوم.
لانني كمواطن ارى رمزية تدمر، لانني كامراة ارى رمزية الزباء ولانني كباحثة وككاتبة عملت كثيرا على هذه الحاضرة الفريدة في تاريخنا. كتبت عملا مسرحيا عن الزباء وقدم في اختتام مهرجانات جرش لعام 1997. من لم يعمل مثلي ولم يقرا ولم يزر، لا ينسى مسلسل “زنوبيا ملكة تدمر” الذي جمع وليد سيف، عدنان الرمحي، نضال الاشقر ومحمد القباني. ايام كانت الدراما العربية ما تزال تعرف ان احياء رموز الفخار القومي باسلوب حديث وراق هو واجب لا تحققه لا المسلسلات المدبلجة عن التركي والمكسيكي ولا المسلسلات المترفة التي تزين شخصيات غير قابلة للتزيين، رغبة في ضرب تجربة عبد الناصر مثلا او لتسخيف تجربة الخديوي اسماعيل. يصبح منفذ قناة السويس مجرد رجل غارق في حقارات الحريم.
في علم الاعلام يقال ان الصورة لا تمحوها الا صورة اخرى، وبذا حاول الغزو الاعلامي الفني ان يمحو الصور المضيئة بصور الانحلال الاخلاقي والوطني والاستهلاكي. بالمقابل جاءت داعش لتمحو تلك الصور المضيئة من واقع الوجود ماديا، فلا تجد الجريمة من يحتج ويصيح الا القلة.
هل يرى البعض انني ابالغ اذ اؤشر الى التحالف لو غير المقصود بين انحطاط الفن والاعلام وانحطاط داعش؟ لا يحدثني احد عن تطور تكنولوجيا المعلومات، فداعش هي ايضا افضل من يستفيد من هذه التكنولوجيا. ولا يقولن احد ان الدفاع عن تدمر واجب سوري او انساني (بوصفها على قائمة التراث الانساني)، لا، انه واجي عربي، لان ذاكرتنا هي المستهدفة، رمزية هويتنا هي المستهدفة، اجيالنا هي المستهدفة كي تصبح نبتا شيطانيا بلا جذور ، طفيليات بلا ارض، كائنات هلامية بلا ملامح، بشر بدون سلم قيم على كافة المستويات.
ليست تدمر هي الاولى، ولا ما حطمه هؤلاء البرابرة في العراق هو الاول، فقبلهم حطم الغزو الاميركي عام 1990 مدينة اور (ابرهيم!) ومع احتلال عام 2003 جاء الطوفان الذي نهب ملايين القطع وحول مكتبات بغداد والموصل التاريخية الى رماد (مئتي الف مخطوطة عربية احرقت في مكتبة المخطوطات في بغداد ) منذ اللحظات الاولى كان عملاء الموساد الذين دخلوا مع الاحتلال يدقون بالازاميل الواح بابل، وخرجت الصورة في القليل من وسائل الاعلام. المخرج البرازيلي الذي حاول توثيق نهب متحف بغداد وتدميره، كان مصيره قطع الراس وسلمت جثته الى الامم المتحدة قطعتين .
ليس التآمر على هذا الارث العظيم جديدا، وليس الدواعش الا الاكثر وقاحة ، لنقل قمة المؤامرة، لانهم ببساطة لا يمثلون رسميا دولة تتحمل عبء جرائمهم، بل وللغرابة يحملونها للاسلام ، اسلام الحضارة التي عملت على ترجمة كل علوم الاولين لتبني عليها حضارتها. بدأ التدمير باور كلدان واليوم تدمر، فاية رمزية!
عندما قامت مملكة لؤلؤة الصحراء كان الساسانيون والرومان يتنازعون المنطقة فقرر اذينة ان يتخلص من الاثنين ويقيم مملكة العرب انطلاقا من البادية السورية. قتل اذينة بعد ان ابعد الساسانيين، فورثته الزباء. رتبت امورها مع الجيران وقررت ان تكمل عمل اذينة وتحرر بلادها من الروم فنجحت ووصلت مصر. لم يفشل مشروعها الا بسبب الخيانة ، خيانة بعض اتباعها ومستشاريها ممن اشترتهم روما او اشتراهم جبنهم وخوفهم من طموح ملكتهم.
يوم سقطت تدمر ، فسقطت بعدها البتراء ومع سقوط الاثنتين سقطت جرش (في الاردن الحالي الذي كان زمن الرومان جزءا مما يسمى: “سوريا المجوفة”) . لماذا؟ لان جرش كانت واسطة العقد في الخط الواصل الاولى بالثانية ، قدر الجغرافيا الذي لا يستطيع احد الغاءه. من البتراء قرر الرومان التوجه الى الجزيرة العربية، وفرضوا على وزير الحارث ان يقودهم لاحتلال اليمن. الوزير صالح قادهم في طرقات صحراوية متشعبة وتركهم، فضاعوا وسقط حلم احتلال الجزيرة.
من يستطيع تكذيب التاريخ؟ حتى ولو وضع اصبعيه في اذنيه وقرر الا يسمع دروسه؟
دروس لا يريد اعداء هذه الامة ان يتركوا منها شواهد ، ان يتركوا للاولاد معلم، ان يتركوا لاثدائنا حليبا نرضعه.
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/6c531d84-d908-493b-9b76-4840fe794245