الجديلة الأوكرانية

شؤون دولية، 30-11-2014

أوكرانيا، أكثر من جديلة ذات خصوصية – هوية على رأس امراة، وأكثر من مشكلة عرقية أو لغوية للناطقين بالروسية، أكثر من خط إمداد للغاز وأكثر من مزود أساسي للحبوب، أكثر من خارطة تحوي شبه جزيرة القرم التي شكلت تاريخياً الموقع الاستراتيجي الحاسم لروسيا وأوروبا وتركيا – آسيا، أكثر من مرارة تلك الذكرى في الوعي الجمعي الروسي، وأكثر من رد فعل سريع أمريكي أو أوروبي وأكثر من نشاط يهودي “إسرائيلي” بارز للمال وللاستخبارات وللسياسة. إنها كلها معاً.
فمنذ أن قررت الاستراتيجية الأمريكية نقل ثقلها وأولويتها إلى ما يسمى أوراسيا، وضع الغرب نفسه في مواجهة بين حلمين: حلم فلاديمير بوتين باتحاد أوراسي يعيد صياغة الاتحاد السوفييتي من دون شيوعية، وحلم أوروبي بقارة توسع نفوذها بعد شرقها إلى أطرافها، لتقف مع الولايات المتحدة حليفاً أقوى داخل حلف الأطلسي، حيث يجمع القوتين الغربيتين سعي النفوذ وسعي الخروج من الأزمة الاقتصادية التي هزت أركان عرشيهما.
وإذا كانت الولايات المتحدة واحدة في قرارها، أما أوروبا فهي مضطرة إلى الحصول على موافقة أعضائها ال28 لاتخاذ قرار عقوبات، فإن كليهما مرتبطة بروسيا بمعطى استراتيجي ما.
الولايات المتحدة مرتبطة بروسيا بخطوط إمداد جنودها في أفغانستان، حيث يمر 40 في المئة من الإمدادات عبر الأراضي الروسية والآسيوية المتحالفة مع موسكو. وهنا يمكن القول إن التهدئة من مصلحة الطرفين. أما أوروبا فأمرها مختلف حيث إنها تعاني تبعية اقتصادية لا تعانيها واشنطن. حيث إن حجم التبادل التجاري الأمريكي مع موسكو يساوي ثلث مبادلات الأخيرة مع ألمانيا وحدها، التي تستثمر 20 مليار دولار في روسيا. ولذلك أخرت أنجيلا ميركل اجتماع بروكسل ثلاث ساعات بحجة تفضيل انتظار استجابة بوتين لدعوى الحوار والحل الدبلوماسي في الأيام المقبلة بحسب التعبير الألماني. ولأسباب مشابهة، لم تبد بريطانيا الحماسة التي أبداها الآخرون ضد موسكو. أما فرنسا فهي من جهة ترفع الصوت عالياً (كما هو حالها منذ ليبيا)، ومن جهة أخرى تضغط على مؤتمر بروكسل كي لا يناقش مسألة حظر بيع الأسلحة لروسيا.
فماذا يفعل فرنسوا هولاند بصفقة غواصتي ميسترال (فلاديفوستوك وسيباستوبول) المباعتين إلى روسيا بمبلغ مليار وربع مليار دولار؟ مبلغ لا تملك باريس المأزومة اقتصادياً ترف رفض خسارته بعدم تسليم الغواصة الثانية في نهاية 2014. وليهدد لوران فابيوس لفظياً وليذهب برنار هنري ليفي إلى كييف كما ذهب إلى بنغازي.
الأوراق الروسية لا تنحصر في الغواصات التي تعتبر درة البحرية الفرنسية الملقبة بالسكين السويسرية، فهناك الغاز، الذي تستورد أوروبا ثلث حاجتها منه من غاز بروم وحدها. ولا بديل عن مصدره الروسي وخطوطه العابرة لأوكرانيا، طالما أن الحرب السورية قد أفشلت تمرير خط آخر عبر المتوسط يحرر القارة العجوز من حاجتها إلى موسكو.
أما أوكرانيا فإن 70 في المئة من غازها يأتي من روسيا، 80 في المئة من صادراتها تمر عبر روسيا، وديونها للأخيرة وصلت إلى 3 مليارات دولار.
وإذا كانت الخسارة عالمية، فيما يتعلق بالإنتاج الغذائي، خاصة الحبوب، حيث تحتل أوكرانيا المرتبة الثالثة عالمياً في إنتاج الذرة والثامنة في إنتاج القمح. فإن الغرب هو الخاسر الأكبر لأنه يحصل عليها بأسعار مخفضة ولا بدائل لديه.
معادلات كثيرة لا يغيب أي منها عن بال اللوبي اليهودي العالمي ولا عن بال “إسرائيل” اللذين يتمتعان بنعمة لا مثيل لها اسمها الجنسية المزدوجة. يحملها برنار هنري ليفي في فرنسا كما حملها بيروزوفسكي في روسيا، بحيث سيطر بضعة رجال، أطلق عليهم لقب الأباطرة على الاقتصاد – خاصة النفط والمعادن – والإعلام الروسيين في عهد يلتسين، وجيروه للاستثمار والبناء في “إسرائيل”. (إبراهاموفتش، خودركوفسكي، غوسينسكي، سمولينسكي، فيكسلبيرج – دريباسكا – فريدمان – تشوبايس). ومثلهم في أوكرانيا فيكتور بينتشوك وإيغور كولومويسكي (6،5 مليار دولار)، الذي يتولى رئاسة الاتحاد اليهودى الأوروبي. بعد أن أسسه، مع الأوكراني الآخر، فاديم رابينوفيتش.
ارتباط هؤلاء جميعاً بالإدارة “الإسرائيلية” لا يعني بالضرورة أن يكونوا في صف المعارضة، ولكن عاملين أساسيين يجعل “إسرائيل” ولوبياتها تتورط في كييف: الأول معارضة حادة لسياسات بوتين، من جهة لأنه هو من وضع حداً لنفوذ الأباطرة اليهود المذكورين، بل ونفى معظمهم خارج روسيا، حتى إن بيروزوفسكي مات في لندن في ظروف غامضة. والثاني أن سياسات روسيا في أوروبا وفي الشرق الأوسط وفي آسيا لا تصب حالياً في مصلحة “إسرائيل” ولا في مصلحة لوبياتها. وعليه يأتي تدخل الموساد في الحراك الشعبي، كما كان الحال في جورجيا، وفي الثورة البرتقالية في أوكرانيا نفسها – منطقياً في باب التحليل كما أن الوقائع التي أوردتها الصحف الأوروبية نفسها تأتي لتثبته. من مثل نقل مصابين إلى “إسرائيل” على نفقة المجلس اليهودي. غير أن اللافت هنا ما ذكره الإعلام الغربي أيضاً من أن جماعات من الإسلاميين التتار بقيادة رفعت شوباروف تقف إلى جانب هؤلاء.
رغم ذلك كله تكتب لو فيغارو: “إن أوروبا تنتظر بفارغ الصبر قبول بوتين بالحوار لكن تسارع الأحداث سبقها، ضربها الذهول شلتها السرعة”.
أما القيصر الروسي المطمئن إلى كل القبضات التي يمسك بها اليد الأوروبية، فيعرف أيضاً أن مصافحة اليد الأمريكية تفيده، ولكن بعد أن يمتلك يداً حديدية على الأرض، لذلك مد عصا حين طلب من صندوق النقد الدولي متابعة مناقشة دعم الدول الناشئة: الهند والصين، من دون واشنطن، ثم تواصل مع أوباما قائلاً: لا يجب أن نختلف لأجل أوكرانيا. فهل يعود العالم إلى طاولة التقاسم التي جلس عليها قطبا الحرب الباردة يوماً، وتقاسما، برضى أم بقسر، بعلانية أم من تحتها، العالم ومن ضمنه أوروبا وأوكرانيا؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون