حياة عطيّة: الشعر، الأسطورة، أخوّة الماء
رشاد أبو شاور
قبل أن أتعرف بها عن قرب، قرأت لها كتابات سياسية في الصحافة الأردنية، تنافس بها كبار الكتاب المحترفين صحفيا، فاستوقفتني لغتها التي تنّم عن( روح) شعرية، تحمل نصوصها وكتاباتها بأناقة إلى القارئ، وتتواصل معه بسلاسة وشفافية تختلف عن الكتابات الصحفية الجافة، التي تنفّر أحيانا بسبب رداءة اللغة، والجمل المترهلة، غير الدقيقة، الإنشائية.
قلت: هذه الكاتبة تكتب الشعر، ولن أدهش لو وجدت لها في المكتبات أعمالاً أدبية.
عندما عدت إلى عمّان من تونس حيث كنت أقيم لسنوات .. التقيت بها، وعرفتها عن قرب، وتيقنت أن ظني لم يخب، فحياة تكتب للمسرح، وهي عاشقة للحرية، وعندها أن لا فرق بين المرأة والرجل، فالحرية لهما حق لا يقبل التمييز، وهي تؤمن بالمقاومة سبيلاً لتحرير فلسطين، وكل أرض عربيّة محتلة.
حياة باحثة، واظبت على الدراسة الأكاديمية حتى نالت الدكتوراه من السوربون، وهي قضت سنوات في باريس لتعزز معرفتها، وقدرتها على البحث، ولتزيد من معرفتها.
ليس صدفة أن الدكتورة حياة الحويك عطية بدأت نصّها الفذ الذي هو العمود الفقري في هذا الكتاب الفخم الجميل والجذّاب( أنهار: الأردن_ الدانوب) الذي هو رسالة تآخ بين البشر، من خلال الحوار بين نهري الأردن والدانوب.
أوّل مرّة رأيت فيها نهر الدانوب كانت في بودابست العاصمة المجرية الجميلة، وفتنني هذا النهر الذي يشكّل جزيرة في قلب بودابست، اسمها ( مارغيت سيغت)، ثم يعود ليلتقي، مواصلا رحلته إلى مدن أوربية وبلاد أوربية كثيرة، فهو شريان حياة، وعلاقة حيّة، وتاريخ، وتراث مشترك بينها جميعا.
قبل أيام كنت في فينا، وهناك جلست على مقربة من مائه، وتأملت لونه الرمادي، وانسيابه الهادئ، وفرح الناس به، رجالاً ونساءً، وأطفالاً، لا سيما والفصل الصيف، والشمس تمنح أجسادهم لونا، ودفئا، بعد فصل الشتاء بثلوجه وبرده الشديد، وعتمته التي تثقل على النفس، وتسبب لها الانقباض.
أنا من جيران نهر الأردن، فقد عشت في مخيم (النويعمة) القريب من مدينة أريحا العريقة، وفي طفولتي ركضت في السهول وهبطت في الوديان وتسلقت التلال، حتى وقفت مندهشا أمام نهر الأردن، وغمست قدمي في مياهه بشيء من الخشية، ولكنني فيما بعد تجاسرت وغطّست جسدي في مياهه الخضراء..بسبب انعكاس لون النباتات، لا سيما( البوص) بأوراقه الخضراء المتهدلة التي تتواشج في أجمات.
الشاعرة حياة عطية تبدأ من الأسطورة في نصها، ولا عجب فهي ابنة هذا المدى الذي على( مسرحه) وجدت الأساطير وسرى الأنبياء، ونشأت حضارات، هي ( المنتمية) لهذا المدى السوري الرحب، الذي يضم فلسطين، لبنان الأردن، وسوريا..أي كل البلاد التي مزقتها سايكس بيكو، وتركتها أشلاء..لاتعترف حياة بحدودها، فهي في عقلها وضميرها وثقافتها تنتمي لسورية واحدة، ولنهر الأردن السوري الواحد الذي يتدفق فيه، ويرفده اليرموك، والوزاني، وينابيع حرمون.
تخاطب حياة عطية( الآخر) بروح إنسانية رحبة: أيها الغريب: كلنا نسكن وطنا واحدا هو العالم.
هي تنثر( المعرفة) في ثنايا نصها النثري الشعري، الذي لا تكتبه إلاّ شاعره، فالجغرافيا والتاريخ تتمازج بأسطورة النشوء والخلق والخصب برشاقة وأناقة، فالكتاب ليس كتابا تعليميا، ولا ترفيهيا، فهي شاءته نشيد محبة لبلاد في قارتين، وهو دعوة للحب، والخير، والجمال، والجيرة الطيبة، وهو نص ينفتح على المستقبل، ولا يقفز على الماضي، والحاضر، فلا يغيب عن بالها هي المنتمية، والمثقفة الملتزمة، المحبة لوطنها، وأمتها، إذ ثمّة ما سبب الألم لنا ماضيا وحاضرا.
الدانوب ينبع من الغابة السوداء ويصب في البحر الأسود
الأردن ينبع من حرمون، لمن نسي، فالأردن ليس نهرا للتقسيم، ليس نهرا حدوديا يمزق، ولكنه نهر يمضي ليروي حقولا للأهل شرقه وغربه، وهو يتدفق من ينابيع تشرب منها دمشق الشام، وحقول وناس لبنان، وهو يصل بين فلسطين والأردن، أو كان كذلك، ولكن…
نحن بشر، يقول النص، لا نعيش في سجن نخنق به إنسانيتنا، فخصوصيتنا هي سبيلنا للتواصل مع أبناء البشر في أوربا جارتنا، أو في أبعد مكان على هذه المعمورة، والخصوصية لا تقف حاجزا بيننا، بل لعلها تيسر سبل التواصل.
تذكرنا حياة بطائر الرها، وتحيلنا إلى الرها حيث أحد أماكن انتشار المسيحية التي نبعت من بلادنا، وفاضت على بلاد الدانوب.
هي تقدم نصا مركزا، يفتح للقارئ المثقف نوافذ يطل منها على الماضي، ويرنو فيها إلى الآتي.
طائر الرها يحمل رسالة، فالسماء مفتوحة، وهو يعبرها بدون إذن، ولا يمر بمراكز جوازات سفر، ولا يحتاج لفيزا من أحد، وهذا تذكرة لمن نسي من البشر على هذه الأرض: ارفعوا رؤوسكم إلى السماء، وتأملوا طائر الرها الذي يأتي إلينا ويعود إليكم، بعد أن يتدفأ بشمسنا، ويشرب ويأكل من مائنا وخيراتنا.
في البدء كان الكلمة، وحياة اختارت الكلمة سلاحا في الحياة، تبشّر بها بحق الإنسان في الحياة الحرّة الكريمة، في وطن سيد حر كريم، والكلمة هي الأساس الذي انبنى ونهض عليه كتاب الصداقة هذا( الأردن _ الدانوب)، وجوهر الكتاب رسالة إنسانية، وليس ترويجا سياحيا، فمن غير المعقول أن تروّج الدكتورة حياة للسياحة النفعية المادية، فهي صاحبة رسالة وهي تريد لهذه الرسالة أن تنتقل من ماء الأردن وسمائه إلى ماء الدانوب وسمائه.
رسالتها تقول بكلمة: كل السماوات واحدة، تظلل كل بني البشر وتهبهم بمائها الخصب..والحياة، فلتكن الأرض للجميع، وليكن على الأرض السلام..وفي الناس المسرّة.
من سيجتذبهم الأردن لزيارته والتبرك به، سيرون أنه نهر بضفة واحدة، فضفته الثانية..الغربية الفلسطينية محتلة، ولذا فالأردن نهر أبتر!.
على ضفتي الأردن عاش يوحنا المعمدان، وفي مياهه عمّد السيّد المسيح، وهذه المياه محرّمة اليوم على أهلها، وعلى السهول التي طالما ارتوت منها.
الأردن بضفة واحدة، والسبب أن من وفدوا من ضفاف الدانوب قد احتلوها وعاثوا فسادا وقتلوا، وصلبوا، ونهبوا..ودمروا حضارة الماء، والخصب، والأخوّة الإنسانية التي بشّر بها المسيح على هذه الأرض.. تحت هذه السماء.
في ثنايا الأناشيد التي أبدعتها حياة، ابنة الحياة، دعوة للأخوة الإنسانية، ومقاومة الظلم، ورد الأذى عن الظلومين، وإعادة المحاريث لتحرث الأرض الطيبة، وطرد أعداء البشر العائثين فسادا من بلاد الشعر، وأساطير الخصب، ودعوات الأنبياء…
العلاقة بالماء هنا، بنهر الأردن، علاقة وجد، و(الأبواب) تنفتح على تراث الصوفية شعرا ونثرا وإيمانا، ولكنها لا تهوّم بعيدا عن الواقع، فهذا الحب المتدفق فيه تحذير من شّر راهن يسمم نهر الأردن، وحياة أهله.
في ( باب الوداع) تكتب حياة: غدا لن نعرف الضفاف التي عشنا عليها منذ الخلق…
هنا يمتزج صراخها مع صراخ يوحنا المعمدان، فأبناء الأفاعي يصحّرون ضفتي النهر، ويعطشون الطيور والبشر، والتراب، ويميتون البحر الميت ميتة نهائية، عابثين بالبيئة المتوازنة التي تحفظ الحياة..إنهم يعتدون على ما أبدعه الله!
النهران : الأردن _ الدانوب، يفترض أنهما نهرا خصب، ومحبة، وخير، وحضارة، ومدنية، ولكن أحدهما يُغتال، والآخر _ الدانوب، حملت سفنه الموت لأهل النهر المقدّس: الأردن..وهنا المأساة!
أن تطلب مني الصديقة الكاتبة، الباحثة، الأديبة حياة الحويك عطيّة أن أقدمها فهذا تفضّل منها، وكرم..فهي في غنى عن التعريف بها، لأنها حاضرة: أديبة، صحفية، باحثة، مثقفة ميدانية عنيدة..ولولا ذلك لما تحملت، وتألقت، وقدمت لنا بكلمتها الطيبة هذا الكتاب، الذي لولا الكلمة لكان مجرد لوحات تشكيلية جميلة، ولقطات بارعة بالكاميرا.. ففي البدء كان الكلمة.