في 11-12-2012 نشرت مقالاً تحت عنوان: “هل سيعود العسكر؟” بدأته بسؤال: هل ستعيدنا الثورات العربية رغماً عنها إلى حكم العسكر. وقد قارنت فيه بين الجيوش السورية والمصرية واللبنانية. يومها كتب لي قارئ يقول: بالأمس كتبت عن استهداف الجيوش العربية، واليوم تتحدثين عن عودة العسكر. لم يكن ثمة تناقض في الطرحين وها هو الواقع وتطوراته يثبتان أن الثورة المصرية ستؤول إلى حضن العسكر، بعد أن جعل سوء إدارة “الإخوان” من هذه العودة مطلباً شعبياً.
غير أن ما ينطبق على الجيش المصري مختلف عن وضع الجيشين السوري واللبناني، وذلك لطبيعة علاقته بالأمريكيين. وإذا كان استهداف الجيوش العربية هو أمر لا ريبة فيه، لأسباب تتعلق ب “إسرائيل” طبعاً، ولكن أيضاً لما يعنيه الجيش في أي دولة من عنصر من عناصر السيادة والاستقلالية، خاصة في ما يسمى بدول الطوق، وهي تسمية كدنا ننساها مع الربيع العربي، فإن هذا الاستهداف يمكن أن يتخذ عدة وجوه تتدرج من تدميره كلياً، كما حصل مع الجيش العراقي، إلى الضغط باتجاه تغيير العقيدة القتالية، كما يحصل مع الجيش اللبناني، الذي يتم استهلاكه في معارك داخلية منذ نهر البارد، وبين الحالين الاستهداف المبرمج للجيش السوري منذ بدء الأحداث في سوريا. بين هؤلاء يأتي الجيش المصري في موقع مختلف، فهو منذ حيّدته كامب ديفيد، خارج الصراع العربي “الإسرائيلي”، لم يعد قادراً على القيام بمهامه القومية، وقد جاء “الإخوان” ولم يغيروا في الأمر شيئاً، حتى ليبدو من المنطقي أن نسأل: هل كانت واشنطن تجرب الإخوان فيما تحضر البديل مع العسكر؟ أم أنها وضعت ثقلها في الإخوان وعندما لم يكونوا على قدر الثقة غيرت رأيها؟
والسؤال الآخر الضروري هنا هو: والشعب؟ الناس؟ أليسوا هم من استدعى أولئك ومن يستدعي هؤلاء؟ هذا صحيح ولكن تحريك توجهات الناس، عبر معرفة دقيقة لقضاياهم، مكبوتاتهم ومطالبهم ليس بالأمر الصعب، خاصة عندما يرتكب “الإخوان” هرم الأخطاء التي راكموها، كما تراكم سيدة جاهلة مكبوتة المجوهرات التي عاشت عمرها تحلم باقتنائها.
وإذا كان التحليل يقودنا إلى أنه من المستحيل أن تسمح القوى الغربية للجيش السوري بالسيطرة على البلاد، طالما أنه لم يغير من عقيدته العسكرية المعادية ل”إسرائيل”، ولم يغير اتجاه التزود بالأسلحة والعتاد والتدريب باتجاه الارتباط الكامل بالعالم الغربي وتحديداً بالولايات المتحدة، فإن الجيش المصري يحقق هذه الشروط مئة في المئة. وقد تحدث محمد حسنين هيكل عن ذلك في حواره مع قناة “سي.بي.سي” على لسان المشير طنطاوي نفسه، من دون أن ننسى أن اندلاع الثورة صادف وجود وفد عسكري عالي المستوى يضم مئات الضباط في واشنطن، وقد عادوا صبيحة بدء الاعتصام في ميدان التحرير في 25 يناير.
وإذا كان محمد مرسي قد توصل إلى إقالة طنطاوي وإبعاد الجيش عن الثورة، فإن الاصطفاف الحاد الدموي الذي عاد إلى الساحات بعد الإعلان الدستوري، عاد ليستدعي، أو ليشكل فرصة لعودة العسكر إلى الساحة، فكان أول الغيث البيان الذي أصدرته القوات المسلحة، وإن تكن آراء القوى السياسية والثورية المختلفة قد تباينت بشأنه يومها، وذلك في ما يتعلق بأسبابه وملابسات خروجه في ظل توقيت الأزمة الناشبة في البلاد، بحيث رأى سياسيون وممثلو قوى مختلفة أنه يحمل في طياته استشعاراً بالخطر وتحذيراً للرئاسة أكثر مما هو تخويف لقوى المعارضة من مخاطر الفترة المقبلة، في حين رأى آخرون أنه تأكيد لضرورة الخضوع للشرعية والقبول بدعوة الرئيس محمد مرسي للحوار، معتبرين إياه أيضاً أنه يمثل اتهاماً للقوى الخارجة على الشرعية، وأنها تسعى إلى تشتيت البلاد. فإن كلا الموقفين كان يعتبر قبولاً بتدخل القوات المسلحة في المشهد السياسي، بل وسعياً من كل منهما لتجيير هذا التدخل لحسابه، خاصة أن الجميع يعتبر أن الجيش ساعد على الإطاحة بنظام الرئيس السابق حسني مبارك، واليوم أصبح هذا القبول مطلباً يبدو أن لا بديل عنه بعد.
إن تصاعدت الأمور في الساحات السياسية بتمسك الرئيس بموقفه وتمسك المعارضة باحتجاجها، وتردت الأوضاع الاقتصادية وأوضاع الحريات، من دون أن تغير في الأمر شيئاً عملية الضحك على الذقون التي حاولها الإخوان عبر الحوار مع شخصيات لا تكاد تمثل إلا نفسها، مما جعل الهوة تتسع أكثر فأكثر بين تجمعي الأحزاب الرئيسية في البلاد، الائتلاف الإسلامي من جهة (الإخوان والسلفيين ومن معهما)، والأحزاب المعارضة برموزها الكبيرة وشعبيتها الواسعة التي حصدت في الانتخابات أكثر من ثلثي عدد الأصوات، (إذا ما احتسبنا الأصوات التي منحتها هذه الأحزاب لمرسي في الجولتين الأولى والثانية). وطالما أن كلاً من الجانبين على ضفتي الهوة في مصر يبدو غير قادر على حسم الخلاف لصالحه، فإن الجيش سيكون هو من يحسمه.