رسموها كما ارادوا، وكما يحتاج الامر كي لا تكون دولة. هكذا فعل الفرنسيون والانكليز في المشرق : سوريا الطبيعية، والاميركيون والانكليز في الخليج العربي. اما بلاد النيل فبالرغم من سلخ السودان عن مصر الا انها ظلت بحجم الدولة. فكان ما قاله منح الصلح : ” دولة مصر وسائر القبائل العربية “. الا ان الدولة المرسومة، كبيرها وصغيرها تهاوت مع الزمن، تهاوت لان طبيعة الانظمة الحاكمة قد استنفدت عناصر الدولة، ولان المستعمر السابق ظل مستعمرا مقنعّا وظل يحمي كل السلطات التي تستنفد احتمالية الدولة. ظل الهشاشة تضرب العظم العربي في كل اقطاره المشكّلة لمسخ اسمه الجامعة العربية، انشىء بحسن نية من ارادوه خطوة على طريق وحدة ما، وبسوء نية من ارادوه بديلا عن اي حلم وحدة، واطارا للتامر على احلام من يتجرا على الحلم.
تامرت الجامعة على عدم ضم الكويت على العراق، عندما اعلن البريطانيون نيتهم الانسحاب من الجزيرة عام 1971، وتامرت على عدم انتصار القوى التقدمية والقومية في حرب لبنان، تمهيدا لتنفيذ الخطة الخفية باخراج منظمة التحرير من لبنان بداية لتصفية القضية الفلسطينية، تامرت على تدمير العراق عام 1991، وتامرت على المقاومة اللبنانية في حرب 2006، لكن مؤامراتها كلها لم تخلع القناع، بل واللباس كما فعلت في الازمة السورية.
المطلوب ليس راس فلان او علان، ولا احلال هذا النظام مكان ذاك، المطلوب تصفية الدولة، بالتدمير بتفسيخ النسيج الاجتماعي، بالتقسيم الواقعي ان لم يكن القانوني، المهم ان يتحول الجميع الى اشتات قبائل : قبائل اتنية او قبائل جهوية او قبائل دينية ومذهبية. قبائل لا ترقى الى مستوى القبيلة بمعناها القديم، فهناك كانت رابطة الدم تشد اواصر الروابط الاخرى فلا تسمح للانتماءات الدينية والمذهبية ان تقسم وتفرق، اما الان فكل شيء قابل لان يكون عنصر تفتيت.
انهارت الدولة، حتى في مصر، وانهارت القبائل الاخرى – بحسب تعبير منح الصلح – وانهار حلم الدولة. بدت الدولة القطرية مجرد كيان يبذل كل جهده ليحمي حدودا غير ممكنة الحماية لانها مجرد حبر ازرق واحمر على ورق، ومخفر على خط افتراضي لا وجود له في حيز الواقع. وها هي النار تقفز من فوقه ساخرة منه : من وزير خارجية بريطانيا وفرنسا واميركا وايطاليا، ومن كل مناضلي القومية العربية ودعاة الدولة الحديثة المدنية.
هو المطلوب كيان، بل وحلم الدولة. ثمة من فهم الرسالة منذ البدء وقرر الا يكون دولة، وان يظل محمية ذليلة الى درجة لم تعد تشعر بذلها، كما العبد الذي تنتفخ اوداجه فخرا لان سيده هو الامير الاقوى بين الاقطاعيين الدوليين. ثمة من حاول الالتفاف على الراسالة ظنا منه انه يستطيع ان يرقى الى مرتبة الحليف او ان يقول لا في لحظة من اللحظات. ونسي الجميع ان كيانا قوميا قويا موحدا يتمتع بمقومات السيادة هو وحده الذي يستطيع ان يلعب على ساحة محلية واقليمية ودولية. اما من تذكروا وفهموا ذلك فقد نسوا امرا خطيرا وهو ان حلما بهذا الحجم وهذه الخطورة لا يمكن حمايته الا بسد شعبي هائل، سد لا يتشكل فعليا الا في اجواء الحريات واحترام المواطن وفتح الصراع الفكري امام الجميع ليثبت الاصح والاقوى، ومن جهة اخرى تامين جهاز دولة خال من الفساد بكل اشكاله ومن التسلط بكل اشكاله، اللهم الا تسلط القانون وسيادته.
ولننظر الى اميركا اللاتينية وصراعها لاجل حلم سيمون بوليفار، حلم الوحدة والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني، لننظر الى اخر معاركها بعد موت هوغو شافيظ، معركة الانتخابات الحقيقية التي لا تقصر الحلم على شخص.