ديكتاتورية بن علي سجنته، وفوضى ما بعد الثورة قتلته، اما تونس فبكته بحرقة الليلة الظلماء.
عدة تهديدات بالقتل تلقاها شكري بلعيد، كان اولها في 23 يناير 2012 على بعد خطوات من وزارة الداخلية، وليس اخرها فيديو وزع على اليوتوب يصور شابا سلفيا جهاديا على راس مجموعة من رفاقه، يصرخ بغضب محموم : “نعم نطالب براس نجيب الشابي وشكري بلعيد، تعالى الى هنا يا بلعيد ان كان بك دم وبك رجولة وسترى وسترى ما سنفعله بك وبامثالك واشباهك . ا اقول هذا الخطاب لاريكم ما في قلبي من غيظ تجاه هؤلاء الذين مرقوا بالله، مرقوا بالمسلمين ليس هذا من كيسي بل بالادلة الشرعية”.
المتابعون لهذه التهديدات لا يشكون في مسؤولية هؤلاء التكفيريين عن مقتله، خاصة وان بلعيد سبق وان هاجمهم في خطبه ولقاءاته السياسية والتلفزيونية. هجوم لم يقتصر على الاتهام بل كشف عن وقائع على الارض من مثل قوله في احدى الحوارات التلفزيونية : ” عندنا قرية تونسية على الحدود الليبية اسمها لوتية، الان فيها خمس الاف ( من توانسة وغيرهم ) يتدربون على القتال باشراف اجهزة اجنبية مخابراتية وجهاديين، ليرسلوا الى سوريا عن طريق تركيا المعتدلة، وبعضهم يرجعولنا لتونس للقيام باعمال اجرامية، يستبيحوا الدولة التونسية والتراب التونسي، وصلوا لان يختطفوا بعض الشباب والدولة نايمة . هناك اهل اتصلوا بي لاساعدهم في استعادة اولادهم.”
بلعيد يرفق الوقائع بتحليل لاهداف هذه الظاهرة كما يحدد المسؤولية عنها بوضوح، وكانه وهو المحامي القدير يقيم محاكمة اغتياله بنفسه .
ففي الاهداف يكرر مرارا ان ” دعاة الفتنة والجهل يضللوا شبابنا ويجندوهم ويدفعولهم فلوس ويعملولهم غسل دماغ ويبعتوهم على سوريا يموتوا، وتطلع القصة لعبة مخابرات تهدف الى تقسيم سوريا لطوائف ومذاهب ودويلات وبعدها لبنان يقسموه والهدف اعطاء شرعية للكيان الصهيوني كدولة يهودية”– بحسب تعبيره حرفيا. اما الهدف الثاني فهو اعادة عدد منهم الى تونس لتخربها وتدمر ثورتها.
اما المسؤولية فلا يضعها بلعيد على عاتق هؤلاء فهم برايه : ” شباب مراهقون لا علم ولا معرفة ولا خبرة لهم، مجرد شباب مغرر بهم، لمجرد فتوى يعملها واحد قاعد تحت مكيف في الخليج في عاصمة التطبيع مع الكيان الصهيوني. والمسؤول عنهم حكومة سيبت بيوت الله لدعاة الفتنة في اطار صفقة”. اذن الحكومة هي المسؤولة الاولى برايه وهو لا يتردد في اتهامها بالتواطوء، ليس فقط لانها تفتح ابواب المساجد والجامعات للقادمين من الشرق من دعاة الفتنة، فتتحول خطب الجمعة الى دعوات نارية لتقسيم تونس- بحسب قوله – بل لانه اتهم وزارة الداخلية باصدار اوامر لرجال الامن بعدم التعرض لا للدعاة ولا للمجموعات التكفيرية، وفي اخر مقابلاته التلفزيونية صاح بالحكومة قائلا : على الهواء اقولها لكم انتم متواطئون!
وعندما يساله المذيع عما اذا كان يقصد بالحكومة حركة النهضة يرد بدقة: نعم جناح من النهضة!
قراءة تجعل المسؤولية عن اغتيال بلعيد واضحة، وعلى لسانه هو، لكنه هو ايضا من ركز في كل مرة على ان هؤلاء الشباب مغرر بهم، وبالتالي ان هناك من يقف من بعيد في الغرف المغلقة ويخطط لهم، ما يشحنون دينيا لتنفيذه، دون ان يعرفوا الاهداف الحقيقة التي قد تكون كثيرة . ومنها ما تؤشر اليه قراءة اقتصادية، حول الصراع بين الجبهة الشعبية التونسية التي يشكل بلعيد ابرز قادتها، من جهة، وبين الحكومة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمجموعة الاوروبية من جهة اخرى . فالصندوق لم يعد يكتفي بما كان عليه الحال ايام بن علي، بل يطلب تصعيد هيمنته بشروط اصعب، وقد فرض خطة التقشف واطلاق مشروع القروض الجديدة بوتيرة لم يسبق لها مثيل. الجبهة الشعبية تصدت لمتطلباته وطالبت حكومة الترويكا بتبني خطة تنمية يسيطر عليها الشعب التونسي. وعليه، بوقف كل تعاون مع الصندوق، وقف تمويل الدين، وتجميد الفوائد واعادة النظر في عملية الاقتراض بشكل يدمج المجتمع المدني في قرار الاقتراض بما يسمح بفهم جميع الظروف المحيطة باقرار عقود الدين هذه، ومراقبة الانفاق واوجهه، وتحديد المسؤولين عن الجزء المريب والغائه. رد الصندوق بدعوة الجبهة الى لقاء سري، فرفضت وردت بالدعوة الى حوار علني متلفز . وادانت كل المفاوضات السرية مع الصندوق ومع البنك الدولي ومع المجموعة الاوروبية.
لكأنه كان يتنبا بكل شيء، بمصيره هو، بانقسام النهضة، بالخطر الذي يتهدد تونس، بالمؤامرة التي تطبخ لها! ولاجلها تحول البلد – كما قال الشهيد- الى سوق دلالة لمجرمي اميركا والكيان الصهيوني. ولاجلها لم نر ردة الفعل الاوروبية، وخاصة الفرنسية، تندد باغتيال بلعيد بقدر ما رايناها تستغل الحادثة لتنعي تونس وتقول انها تنحدرالى الهاوية منذ سنة.