رحلا تباعا، دون تشييع شعبي ولا رسمي، فخيمة الموت لا تسمح، والمخيم المرشح للقيام بذلك مشغول بين جبهة النصرة والجيش الحر ومؤيدي السلطة في سوريا. فقد انتهى الهم الفلسطيني وتحررت البلاد من البحر الى النهر ولم يعد على اهل الشتات الا ان ياخذوا نصيبهم من التدمير السوري. رحلا واعادا الى الكثيرين ممن عاشوا مرحلة السبعينات في بيروت، ذكريات شحنتها الثمانينات بالمرارة ويزيد الحاضر من مراراتها.
ابو خالد العملة قبل شهر وابو موسى قبل يومين. لم ينتبه احد الى رحيل هذين القائدين المناضلين، حتى ولا جنازة شعبية. لكنهما اعادانني اربعين سنة الى الوراء، كان ابو خالد جارنا، في الطابق الاسفل – التسوية الصغيرة من العمارة : منزل بسيط جدا ككل بيوت اللاجئين الذين لم يترك لهم النضال وقتا للاثراء ولم يغدق عليهم بنعمه فيغرقهم في ال “شيفاز ريغال “. تعودني عبارة يكررها : “نحن في الثورة، منا من يقاتل حتى القبر، ومنا من يقاتل حتى النصر ومنا من يقاتل حتى اخر الشهر “. لكنه يعود فيردف ضاحكا : اقصد العامة لا اولئك الذين لا يحتاجون الى التفكير باخر الشهر ولا باخر العمر فقد كفاهم المال شر القتال.
بدات الحرب الاهلية بعمليات قنص من الحازمية على منطقتنا : “حرش ثابت” الواقعة بين مخيمي جسر الباشا وتل الزعتر، وانتقلت العمارة كلها الى تسوية ابو خالد لاسابيع طويلة، تركنا خلالها الرجل مع زوجته وذهب الى حيث لا ندري من مهماته. بعدها عاد وخلال هدنة ما خرجنا في عطلة نهاية الاسبوع كي نعود يوم الاثنين، لكننا لم نعد ابدا. ظل المفتاح مع ابو خالد، وظل حراسه يعتنون بكل شيء حتى بسقاية الزرع على الشرفة التي لم يسمح لهم حتى بالمبيت عليها حين كان القيظ يشتد…كانت تلك امور بسيطة، لكنها اخلاقيات نادرة في سياق حرب لبنان التي كان شعارها ” المصادرة” كتعبير منمق عن النهب. لم نتمكن من العودة الى ان سقط تل الزعتر، وذهب بيتنا مع ما ذهب، وعرفت ان الحارسين الذين كانا يعتنيان ببيتي وباحوال الجيران قد قتلا. لم ار ابو خالد منذها وان كنت قد استمريت اتابع اخباره.
في الجنوب حيث انكفانا وحوصرنا، عرفنا ابو موسى، وعرفنا سمعته قبل ان نلتقيه. القائد المنضبط في نظامه وفي مسلكه، المتقشف في حياته وفي مكتبه، المناضل الحقيقي الذي لا يلقي الخطابات ولا يتوسل الاعلام ولا يداهن احدا. العسكري المناقبي الذي بذل جهده دون جدوى كي يمنع النهب والتهجير عن بلدتي الجية والدامور المسيحيتين عندا انهزم منهما الكتائب. كان رفاقنا في الاحزاب اللبنانية يتحدثون عنه كحالة خاصة ومضيئة وكقائد اسطوري في قدراته العسكرية وفي شعبيته بين القواعد التي عاش بينها باستمرار خلال المعارك وبينها وعلى راسها. وبالامس قرات زياد منى يروي زيارته الاولى لمكتب ابو موسى في الجنوب، ورايت ان علي ان انقل فقرة الرواية كما هي:
” كنت قد سمعت الكثير عن الراحل، لكن لم تسنح لي فرصة اللقاء به، حيث كان الاتصال بين الكوادر السياسية والقيادات العسكرية أمراً تحاربه قيادة فتح لأسباب بديهية.
عندما وصلت برفقة مندوب «شينخوا» إلى مقر أبو موسى في صور، وكانت المرة الأولى التي أصل فيها إلى تلك المنطقة، دخلنا مكتبه الذي كان في غاية التواضع؛ بضعة كراس خشبية ومكتب في غرفة جدرانها عارية، وحوله بعض رجال «العاصفة». أحسست بأني أدخل مقر قائد مناضل، فشعرت بالخجل من الأبهة والفخامة التي نعيشها في مكاتبنا (الثورية) في بيروت. ورغم التواضع الحقيقي للراحل الكبير، يشعر المرء بمهابة حضوره. كان صيته العسكري والخلقي قد انتشر بين كل أعضاء حركة فتح والساحة الفلسطينية. استقبلنا وفق الموعد، من دون التأخير البديهي الذي يتخفى وراءه أشباه الزعامات الذين وصلوا إلى مواقعهم بسبب ولائهم الشخصي المطلق للقيادة. تناولنا كوب شاي ثم سألني عما يريده «الرفيق». طلبت من المندوب الصيني طرح الأسئلة علي كي أترجمها للراحل، وهذا ما فعله. كانت الأسئلة عن تاريخ أبو موسى النضالي ووضع القوات الفلسطينية في جنوب لبنان وما إلى ذلك من العموميات المعروفة.
فكّر الراحل قليلاً ثم ارتسمت على محياه ابتسامته الهادئة العذبة وقال: «شوف، أقترح أن تعود معه إلى بيروت، بعد جولة في بعض القواعد، واحكِ له أنت ما شئت، أو قل للإخوة (السياسيين) في بيروت أن يحدّثوه في ما رغب. أنا لا أعرف الكلام ولا أجيده. أنا مقاتل من أجل فلسطين والكلام اتركه لمن يجيدونه».
احب الصمت فذهب بصمت، وعاش للفعل فذهب احتجاجا على زمن استقال فيه الفعل الثوري لصالح الكلام الذي تركه لمن يجيدونه.