وجه من وجوه هذه الظواهر العالمية التي تظهر من حين لاخر كحالة احتجاجية على ما يعتبره الشباب ظلم السلطة الاقتصادية او السياسية او حتى الدينية، او تعبير عن الياس منها. هذه هي بلاك بلوك التي كثر الحديث عنها في مصر هذه الايام. عرفت بلاك بلوك في اوروبا في مطلع الثمانينات حركة شبابية تحتج بالعنف على السلطة وكذبها ودجلها، على تلك المسافة الشاسعة بين الاقوال والنوايا، بين ما يظهر اصحاب السلطة من التزام وحرص وما يبطنون من جشع وظلم واقصاء، ومن ثم كموقف من الراسمالية الغربية. وازاء هذا تحولت الحركة الى موقف من المؤسسات التي تعتبرها غطاءا فعليا لتحقيق جشع الاقوياء وظلم الضعفاء. موقف عكس ما عرف بالمدرسة الفوضوية في الفكر والفلسفة، وهي مدرسة لا تدعو الى الفوضى كما يخيل للبعض وانما تعتبر انه من الممكن للمجتمع ان يحقق نظامه الخاص وعدالته بعيدا عن المؤسسات الرسمية المخادعة.
وصلت بلاك بلوك الى اوج شهرتها عام 1999عندما ظهر شبابها مقنعين يعترضون على مؤتمر دافوس الاقتصادي باعتبار انه مؤتمر الراسماليين القيمين على السلطة السياسية والاقتصادية بما يتعارض مع العدالة الاجتماعية. وبنفس القناع الاسود راينا مجموعات من الشباب في شوارع مصر لم يلبثوا ان اعلنوا عن انفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي وتحولوا الى ظاهرة تميزت بانها عمدت الى ممارسة العنف خلال التظاهرات والاعتصامات الشعبية، ورفضت التعاطي مع الاعلام. فهل هي حركة احتجاجية من نوع تلك التي عرفتها اوروبا ومن ثم عرفت القارة العجوز كيف تذوبها ؟ ام انها اخذت من الظاهرة العالمية شكلها الخارجي لتخفي وراءه دوافع اخرى واهدافا اخرى ؟ وفي كلا الحالين – واعتمادا على ان مصر هي دائما ساحة الاقتراح بالنسبة للعالم العربي – فهل لنا ان نتوقع ظواهر مشابهة في مجتمعات عربية اخرى ؟ وكيف سيكون لهذه المجتمعات ان تتعامل معها؟
قد يقال، ان الظاهرة ليست بالحجم الذي يستحق طرح كل هذه الاسئلة، وربما كان ذلك صحيحا. ولكن مضمونها هو بالحجم الذي يستحق، لانه يعكس حالة من فقدان الامل بالسلطات وبالمؤسسات، كما يعكس حالة من عدم الانتماء بين الشباب والامن والدولة. كما انه وبذلك يمهد الطريق لاستغلال هذه الحالات من قبل اطراف عديدة لا تريد الخير لا لمصر ولا لدول عربية غيرها. ولا يعتد هنا بالقول ان حالة الياس وعدم الانتماء كانت قائمة قبل الثورة المصرية ( كما غيرها) لان وجودها حينها كان يعزز روح الثورة ضد نظام تعفن وتاكل،داخليا وخارجيا، كما يعززالحلم بالبديل الديمقراطي والحقوقي. بديل ربما رسم له الخيال صورا اكثر اشراقا مما يؤهله الواقع لان يكونه. كان الشباب يعتقدون ان مجرد التخلص من فلان يعني انفتاح ابواب السماء وفضاءات الحرية والتعددية والعدالة. ولم تكن الوحدة التي نجمت عن الاتحاد في تحمل القمع والاقصاء والظلم تسمح للكثيرين بان يفكروا ان الكثيرين من المعارضين قد لايكونون افضل من الطاغية. اذ لا يكفي لان نكون جميعا ” ضد” لنكون متفاهيمن، المهم هو تحديد ما نحن معه، ما نريده. رفضنا الاقصاء فهل نريد جميعنا التعددية؟ رفضنا القمع فهل نحن كلنا مقتنعون بالحريات ؟ رفضنا المذهبية فهل نحن كلنا اقل مذهبية؟ رفضنا الاقليمية فهل نحن اقل اقليمية؟ رفضنا شكل الحكم القائم فما هو الشكل البديل الذي نريد ؟ انها كلها اسئلة تتطلب اعتماد رؤية واضحة للحياة والمجتمع والدولة والدين والاخر وموقفا واضحا منها جميعا؟
هكذا كان الشباب – وغير الشباب – يحلمون بالتغيير، ولكن لم يكن هناك رؤية واضحة للبديل، وعندما جاء كانت الصدمة الكبرى، صدمة من طبيعتها الصمت لفترة، ثم التطلع الى شكل جديد من اشكال الاحتجاج غالبا ما يتحول الى انفجار. انفجار تتوسع رقعته نارا تحرق الجميع اذا لم تعرف السلطة الجديدة ان تتفهمه فتتعامل معه وتطفىء ناره. وهنا يبرز السؤال المصيري الخطير : هل ان من طبيعة العقليات القائمة على الحكم في مصر، والتي تقوم قناعتها النظامية على الطاعة العمياء وديكتاتورية المرشد والمسؤول على من هو ادنى منه ان تستوعب ظواهر اعتراضية شبابية كهذه او حتى غير شبابية وان تتعامل معها ومع طموحاتها؟ والسؤال نفسه ينسحب على عقلية تنظيمات اخرى من تلك التي تقوم على التراتبية البطريركية الديكتاتورية التي لم تتعود قبول الراي الاخر ومحاورته، خاصة عندما يكون هذا الاخر هو الشباب الذين يريد الكبار ان ينظروا اليهم كتلاميذ ومريدين فحسب. فكيف اذا دخل عنصر المفروض الديني الذي لا مجال لمناقشته بمنطق وعقل الانسان؟
ليظل السؤال الاخطر : اذا لم تعالج هذه الاشكالية، فمن الذي يضمن عدم استغلال جهات اخرى خارجية وداخلية هذه الجماعات الاحتجاجية شبه السرية، المحتقنة بخيبة الامل والمتفجرة بردة الفعل والمرشحة للتوالد والتمدد؟