ثمة اشارات من خارج سوريا يمكن ان تشكل مؤشرات لتطورات الوضع خلال الاشهر القادمة، ولكن هل يمكن ان تتحدد نتائجها الا بالمؤشرات والوقائع التي تتحقق على الارض السورية؟
لم تعد الازمة السورية، بل ولم تكن يوما ازمة داخلية، رغم بعدها الداخلي الاكيد، وهي تتعدى الاقليمي لتصل الى اعادة رسم الخريطة الشياسية الدولية انطلاقا من هذه النقطة التي يبدو انها لم تكن صدفة اقدم عاصمة في التاريخ. ونحن لا نقول ذلك من باب البلاغة اللفظية. افلم يكن حسم مستقبل الامبراطورية العربية الاسلامية من دمشق؟ وبالمقابل، الم يكن حسم فرض تطبيق سايكس بيكو وبالتالي تحديد مستقبل المنطقة والعالم من معركة ميسلون وقصف الفرنسيين لدمشق؟ وهذا مثال لا حصر.
المؤشرات تدلل على تحولات : بدءا من لبنان وهو الخاصرة الاقرب والترمومتر الادق للوضع السوري، ومن الشخصية الاكثر حساسية : وليد جنبلاط، وانتقالا الى راس الدولة الجنرال ميشال سليمان، مرورا بشخصيات كثيرة اقل اهمية. فجنبلاط لا يغير خطابه ويصر على الحل السلمي، ولا يتعمد اطلاق هذا التغيير من موسكو، مجانا، مستبقا بذلك زيارة الرئيس الذي يقول اللبنانيون المتحمسون انه حيادي لدرجة انه بلا لون ولا طعم ولا رائحة، لكنه في الواقع حيادي بحيث يعرف ان يكتسي اللون المناسب في الوقت المناسب. ومن هنا فان الزيارتين لا تنفصلان ابدا عن زيارة نجيب ميقاتي للسعودية واستقبال الملك عبد الله له في اعلان لفك الحصار عن الحكومة اللبنانية، التي حلت بديلا عن الحريري وحكومة 14 اذار، اي اعداء سوريا. هذا في الوقت الذي تسربت فيه انباء عن اجتماع سعودي- سوري، رعاه الامير عبد العزيز بن عبد الله الذي يمثل الجناح السعودي الرافض لتمويل العنف في سوريا، والمؤيد بالتالي لحل سياسي. ورغم ان الانباء تقول انه اجتماع خجول اقتصر على جوانب امنية تتعلق بمقاتلي تنظيم القاعدة من السعوديين الذين سقطوا بيد الجيش السوري، فانه يشكل خطوة اولى قد تتطور وقد تجهض. واذا كان ثمة حديث عن دور اردني في هذا اللقاء فان ذلك يلتقي مع مؤشرات تصدر من الخاصرة الاخرى لسوريا وفيما حذر منه جلالة الملك عبد الله الثاني في اكثر من لقاء اهمها خلال استقباله في عمان وفداً من مجلس الشيوخ الأميركي برئاسة السيناتور الجمهوري جون ماكين حيث نبه الى تداعيات الأوضاع الخطيرة في سورية على المنطقة، و”الفراغ الذي قد تستغله العناصر المتطرفة لتنفيذ أجنداتها”.
مؤشرات اخرى جاءت من واشنطن حيث بدا واضحا ان الرئيس اوباما سيركز في ولايته الجديدة على ملفات داخلية كبرى، كالاقتصاد ومحاولة الحدّ من العنف المسلح، وخارجياً إنهاء الحرب على أفغانستان، والمفاوضات مع إيران، ومحاولة احتواء الصين وفرض النفوذ الأميركي في المحيط الهادي، والأهم من ذلك على الحرب على الإرهاب. وهنا ياتي اختيار جون برينان لمنصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ذا دلالة واضحة حيث ان الرجل يجمل لقب “قيصر مكافحة الإرهاب”، حيث انه من رسم مخطط حملة الوكالة لمكافحة الإرهاب.وهنا يبرز افتراق عن الاوروبيين الذين انفردوا – مع الاتراك وبعض العرب – بخوض حملة إعلامية وسياسية تأييداً للمطالبة بإحالة الجرائم في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية حيث ان ما يحفز المقاربات الأوروبية هو العامل الاقتصادي والمالي، في حين ان ما يحفز الخليجية والتركية، هو الرغبة في الهيمنة والبروز كقوى إقليمية كبرى من خلال استخدام الحركات الأصولية المتطرفة.
هنا ايضا ننتقل الى القطب الاخر العائد بديبلوماسيته الى الساحة الدولية وباساطيله الى المتوسط وغيره، حيث برز تشدد واضح في خطاب القيادة الروسية ازاء طروحات المعارضة والدول التي تساندها. بل وقال احد المحللين المحسوبين على السلطة الروسية عبر شاشة روسيا اليوم ان المناورات الروسية هي لتبريد بعض الرؤوس.
غير ان لكل عملة وجهان، ولكل احتمال مقابل، فما هي الاحتمالات المقابلة لهذه المؤشرات؟ وما الذي سيرجح الكفة في هذا الاتجاه او ذاك؟ انه وبلا شك ميزان القوى الذي سيتحدد على الساحة السورية نفسها ولكنه ايضا ما تحدده وقائع التشابكات الاقليمية والدولية
المحرك العربي الاساسي – اي السعودية يواجه احتمالين، تطوير الانفتاح على الحكم السوري، هذا الانفتاح الذي بدا بلقاء امني، او اجهاض هذا التوجه، ولكل من المآلين مبرراته،حيث تدعم التطور عوامل كثيرة منها هواجس المملكة من تصدر قطر الهيمنة على الحراك العربي، ومن تصاعد قوة الاسلاميين المتطرفين والاخوان المسلمين في المملكة، وفي المدى النهائي من مخططات تقسيم السعودية التي لم تعد سرا على احد. هذا في حين تدعم الاجهاض قوى اخرى ترى في القضاء على نظام الاسد تخلصا من اخر نظام يدعي مشروعية قومية وسيادة نهائية لخط الاعتدال، والاهم من ذلك ان هذه القوى تتحرك بدافع مذهبي ترى في ضرب النظام السوري ضربا لايران وبالتالي للخط الشيعي في العالم الاسلامي كله. وكان هذان الخطان قد برزا بقوة في السعودية منذ احتلال العراق، حيث راى الاول ان مصالحة اسلامية، سنية – شيعية من شانها ان تحمل الامان للعالم الاسلامي وخاصة للمملكة التي تتشكل من مكونين سني وشيعي، (ونذكر زيارة خاتمي للسعودية وشبك اليدين بين احمدي نجاد والملك عبد الله وارتفاع الحديث عن التقريب بين المذاهب ). في حين راى الخط الاخر – مدعوما من الولايات المتحدة الاميركية – ان الصراع مع الامتداد الشيعي هو الذي يؤمن زعامة المملكة للمعسكر السني والتفاف جماهيره حولها. والواقع ان تشجيع هذا الخط لم يكن يستهدف السعودية بقدر ما كان يستهدف حاجات الاحتلال الاميركي في العراق، وبالطبع حاجات اسرائيل لتعميق هذا الشرخ وتفجيره. وها هي الاحداث تاتي لتبرهن ان هذا الخيار الاخير عبثي لان الصراعات الدينية قنابل عنقودية لا نهاية لتفجر اجزائها. بدليل صراعات الخط الاخواني مع السلفيين وصراعات الجماعات السلفية فيما بينها وصراعات الجماعات التكفيرية فيما بينها ومع الاخرين. وليس من مثال ابلغ من تفتت المذهب البروتستانتي في اوروبا واميركا بعد صراعه مع الكثلكة بحيث يفوق عدد المذاهب البروتستانتية اليوم خمسمئة مذهب او كنيسة. غير ان الدولة الغربية الحديثة استطاعت ان تحد من خطر هذا التفتت الديني بفضل اقرار مفهوم المواطنة بصرف النظر عن الدين او المذهب او العرق. وبما اننا ما نزال بعيدين عن هذا المفهوم الحضاري للدولة، دولة المواطنة ودولة القانون، بل اننا كلما اقتربنا منه عاد التخلف والمؤامرة فابعدانا عنه، فان لنا ان نسال : هل يمكن ان يعود الخيار التوحيدي او على الاقل التقريبي بين المذاهب الى الانتصار، فيما ينعكس خيرا على الجميع؟
اما المحرك الدولي المتمثل في واشنطن، فانه يخضع لميكانيكية لا تخرج عن دائرة التدخلات الصهيونية عبر اللوبي اليهودي، ولا عن دائرة المصالح الاقتصادية والمالية التي تهيمن عليها لوبيهات المجمع الصناعي العسكري،كما ان تطورات العلاقة مع ايران وتوزيع مكاسب النفط والغاز، ستنعكس على الوضع السوري. هذا من جهة، اما من جهة قرار واشنطن الواضح بعدم التدخل العسكري او بعدم التمويل، فهذان امران لا اهمية لهما، وذلك لسببين: الاول يتعلق بالتدخل العسكري، حيث ان الادراة الاميركية قد انهت عهد تدخلها هي نيابة عن الحلف في كل مكان، وذلك بدءا من مؤتمر بروكسل حينما تم الاتفاق على ان من يتكفل بالتدخل هو العضو الاطلسي الاقرب الى الدولة المعنية، ووصولا الى خطاب اوباما حول تخفيض الميزانية العسكرية، حيث قال صراحة انه على سائر الاعضاء في الحلف ان يتحملوا اعباءه وان عهد اعتمادهم على الولايات المتحدة قد انتهى. وبعدها جاء التطبيق الاول في الازمة الليبية. من هنا يكون المرشحون للتدخل في سوريا هما تركيا واوروبا. اما السبب الثاني فهو ان التمويل لا يعكس مشكلة طالما ان من يمول هو الدول العربية الغنية نفسها، التي لم يكفها ان تمول حرب ليبيا لاجل عيني برنار هنري ليفي، وحرب العصابات في سوريا، بل انها تكرمت بتمويل حرب مالي؟
اخيرا اوروبا، هذه المستعمرة العجوز التي تحلم بالاستعمار من جديد، خاصة في جزئها الفرنسي. فرنسا التي لم تختلف من ساركوزي اليميني الى هولاند الاشتراكي، لان حلم العودة الى المستعمرات القديمة واحد، وحل المشاكل الاقتصادية وتامين الرفاه للفرنسيين على حساب نهب ثروات العرب والافارقة ما زال يدغدغ احلام الجميع. فرنسا هذه هي بدورها مستعمرة صهيونية اميركية، ومثلها مثل كل المستعمرات يصرخ الشرفاء فيها عاليا ضد السياسات الرسمية فيكون نصيبهم الاقصاء والابعاد ان لم يكن الاضطهاد. ولذا فان قرارها لن يكون منفصلا عن الارادة الاميركية.
وبذا يظل القرار الخارجي، للمعسكر المعادي للنظام السوري، في جوهره قرارا اميركيا، حتى ولو لم يكن التدخل العسكري واردا لدى ادارة باراك اوباما، الا انها هي من يؤشر همسا للعرب وللاتراك وللاوربيين بان يتحركوا في هذا الاتجاه او ذاك. اما القرار الاخر، في المعسكر الحليف للدولة السورية فهو قرار ذاتي، للروس كما للصينين كما للايرانيين، يعتمد على اللعبة الدولية الازلية: لعبة المصالح. مصالح تضع هذه القوى حتى الان في صف محسوم. وتجعل اللعبة النهائية بينها وبين واشنطن.
غير ان هذا الحسم يتوقف على قدرة الجيش السوري على حسم الامور عسكريا على الارض، وهي قدرة ما تزال حتى الان موضع تفوق، بل وموضع احترام بحسب تعبير الواشنطن بوست نفسها، احترام يفرضه تماسك هذا الجيش،كما قالت الصحيفة حيث ان الانشقاقات لم تبلغ حتى الان حدا يذكر، كما ان سيطرة المسلحين على قاعدة من الفين وسبعمئة قاعدة لا يعتد به لا عسكريا ولا سياسيا – والقول دائما للواشنطن بوست. غير ان هذا لا يعني ان المسلحين ومن وراءهم سيستسلمون للتفوق العسكري النظامي، ان لم يكن دفاعا عن النفس، فعلى الاقل لتحسين شروط الحوار، بل وللحصول على مقعد على طاولة هذا الحوار، وعليه سيكون امامنا شهران او ثلاثة شهور من التصعيد الصعب، اذا ما صدقت التوقعات والتسريبات الديبلوماسية التي تجعل من نيسان شهر بداية المفاوضات.