لا يمكن ان يغني مقال عن سماع او قراءة الحديث الهام الذي ادلى به الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لمحطة سي بي سي الفضائية حول الاحداث في مصر. ففي هذا الحديث اكثر من تحليل واكثر من وثيقة وواقعة.
منطقي ان يبدو هيكل قلقا على مستقبل مصر بدءا من وصفه الإعلان الدستوري الأخير، الذي أعلنه الرئيس محمد مرسي بأنه “قفزة في الظلام”، مشيراً إلى أن المأزق الرئيسي الذي تعاني منه مصر اليوم، إلى جانب أزمة “الدستور” والجمعية التأسيسية، التي كان يتعين عليها أن تضم جميع القوى الطبيعية في المجتمع ولا تقتصر في تشكيلها على فئة واحدة، هو أنها أصبحت بصدد تأسيس دولة جديدة، بعد فترة غابت فيها فكرة الدولة بكاملها.
وكي لا تؤدي هذه القفزة في الظلام الى الوقوع في الظلام حاول الرجل المحنك ان يقيم توازنا بين طرفين فحذر من جهة من دعوات إسقاط النظام التي ترفعها الموجة الثانية للثورة، لان النظام الحالي “موجود وله شرعية، وينبغي أن يستوفي مدته”، لكنه وبديالكيتيكية قانونية عاد ليقول بان “شرعية النظم تسقط بالجرائم، وليس بالأخطاء” لكنه حذر في الوقت ذاته من أن تصل الأمور في البلاد إلى ما هو “أكبر من الأخطاء، وأفدح من الجرائم”، إذا ما استمر الانسداد في الأفق السياسي للأزمة. وكذلك حذر من ان تكون السياسة بالانطباع وليس بالإقناع معبرا عن خشيته من أن يحصل الفلق في مصر، حيث ان ما تواجهه البلاد الان أخطر بكثير من انقسام بين طرفين. من جهة ثانية حاول ان يقيم توازنا اخر بتحليله للقلق الذي ينتاب طرفي الازمة، واحد من العودة الى الماضي واخر من القفز الى مستقبل مظلم، ويحكم تحركهما.
لم يتوقف هيكل عند التحذير من بعيد، بل كشف النقاب عن انه حاول طرح بدائل لحل الأزمة الراهنة، لكن الرئيس لم يلق اليها بالا.
غير ان الاهم هو ما اورده هيكل من تحليل لوضع السيادة الاقتصادية والعسكرية ولعلاقة النخب بالكتلة الشعبية في مجتمع ما: ففي مجال كلامه عن حوار دار بينه وبين المشير طنطاوي حاول هيكل تبرئة المشير، لكنه، بقصد او بغير قصد نبّه الى نقطة جوهرية وهي انه كائنا من كان على راس المؤسسة العسكرية المصرية، فان يداه تظلان مكبلتين بالكامل، طالما ان سلاحه وذخيرته وتجهيزاته كلها اميركية، وكذلك تدريباته واعداد عناصره ن مما يعني ان قراره لا يمكن ان يكون خارجا عن الارداة الاميركية. غير ان التكبيل لا يقتصر على الجانب العسكري، بل انه يتجاوزه الى كامل الوضع الاقتصادي: فلا سيادة بلا استقلال اقتصادي، ولا استقلال اقتصادي بلا اقتصاد انتاج،( وهذا ما بنت عليه المرحلة الناصرية في مجال الاصلاح الزراعي والتصنيع) في حين ان البلاد كلها عاشت على مدى العقود الثلاثة الماضية على المعونات الخارجية التي بلغت تريليونات الدولارات، معونات لم تستثمر في التنمية او في تعزيز الانتاج وانما في سد حاجات دولة وظيفية،عدا ما تبخرفي سراديب الفساد، وبذا تجد الدولة الجديدة نفسها الان امام ازمة توقف المساعدات مضافة الى هبوط التصنيف الائتماني لمصر إلى المركز 130.
اما في الجانب السوسيو سياسي، وتحليله لعلاقة الكتلة بالنخب، فقد اوضح هيكل، مستندا الى نموذج توضيحي من نهرو والهند، ان كل مجتمع، لا سيما المجتمعات النامية، يتالف من كتلة شعبية ونخبة، وان دور النخبة ان تكون رافعة للكتلة، تنهض بها وبوعيها وادائها، فاذا قويت النخبة استطاعت رفع المجتمع كله الى الاعلى، واذا ضعفت نزلت عليها الكتلة وسحقتها وهبطت بالمجتمع كله الى الاسفل. ولا بد ان نضيف هنا ان ضعف النخبة قد لايكون ضعفا بالمعنى المباشر وانما قد يكون نتيجة ارتهانها او انسياقها او اغترابها عن مصالح مجتمعها. وفي هذا التحليل اشارة الى ما يمكن ان يحصل في الاستفتاء المزمع على الدستور. فاي اقتراع نتوقع من ملايين الاميّين على مسودة دستور لا يفهم ابعادها الا رجال القانون والسياسة، خاصة وان هذه المسودة لم تخضع الى أي نقاش عام وتداول اعلامي وعام يمكن الجميع من تفهم مضمون الجدل حولها والقراءات المتعددة لابعادها ؟ ماذا نتوقع من ناخب على نمط رجل قال للتلفزيون يوم مليونية الاخوان : جئت من بور سعيد الى هنا لاشارك في حماية الشريعة ؟ ماذا يمكن ان نتوقع من كتلة قبلت ان تحاصر المحكمة الدستورية العليا دون ان تدرك ان في ذلك الغاء لدولة القانون ؟
وهل يمكن ان نعتبر مع هيكل ان الموقف الشعبي الذي نراه عقب إعلان طرح الدستور الجديد للاستفتاء قد “اعاد روح ثورة الخامس والعشرين من يناير على نحو أفضل، وأكد عدة حقائق أهمها أن القوى الحقيقية للثورة لا تزال موجودة، وأن الإخوان لم يكونوا العنصر الوحيد فيها”؟