لم يضيعوا البوصلة. لم تشغلهم الضوضاء والدخان وكل فصول السنة عن النظر الى قباب القدس. مجموعة صغيرة من الشباب، يقودهم مناضل ابن مناضل، ظلوا مستمرين بصمت باعتصامهم الاسبوعي امام السفارة الاسرائيلية تعبيرا عن رفضهم لوجودها. ابعدتهم ضرورات امنية عن بابها فاختاروا مكانا قريبا، مسجد الكالوتي. ليس المكان هو المهم فكل نقطة من الارض العربية هي مناسبة لاعلان موقف، خاصة عندما يكون الامر رمزيا سياسيا لا عسكريا.
اسال د. ابرهيم علوش، فيقول بالم ان الربيع العربي اثر قليلا على جمهور الشباب فتناقصوا لانهم اختلفوا حول المواقف مما يحصل، خاصة في سوريا. لكنه يتابع باصرار ان اغلبية المشاركين ما يزالون على اصراراهم. القصة هنا. فكيف يجعلنا الاختلاف المشروع حول قضية داخلية عربية، نختلف حول الموقف المبدئي من الكيان الصهيوني، ومن فلسطين ؟
افلم يتحالف الشيوعيون الفرنسيون مع شارل ديغول اليميني وسائر مكونات المجتمع السياسي عندما كان النازيون يحتلون بلادهم ؟ الم يكن موقفهم موحدا من فيشي ومن فرنسا الحرة، بل ومن الحلفاء ؟ الم تتحالف كل قوى المجتمع الروسي ضد غزو نابوليون ومن ثم ضد غزو هتلر ؟ فلماذا يختلف الامر لدينا ؟ سؤال قد يحمل في طياته جوابا خطيرا وواقعيا على التساؤل الاكبر عن اسباب فشلنا، وفي الموضوع الفلسطيني تحديدا.
لنقلها بصراحة : ثمة من يقدم النظريات على الارض والشعب، على الامة، وثمة من يقدم الاحقاد على كليهما، وثمة من تعوّد على النضال مدفوع الاجر – وبسخاء خليجي – ( ولا يحدثنا احد عما عايشناه في بيروت السبعينات)، ولذا اصبح المسلك عادة والعادة طبيعة ثانية، واذا لم يعد الدفع متوفرا لاجل فلسطين فهو متوفر لاجل امور اخرى… من جهة اخرى ثمة من تعوّد – وهم كثر وكثر – على ان يؤيد الفعالية طالما انه على راسها ونجمها، حتى اذا انتفى هذا الشرط، انقلب عليها وراح يكيل لها التهم.
لا نتحدث فقط عن اعتصام الكالوتي، بل عن مسلك سياسي لا يقال فسادا عن مسلك الطبقة السياسية الرسمية التي اعتدنا ان نحصر نقدنا بها وحدها.
ولا نتحدث فقط عن هذه الفعالية او تلك، وانما عن ظاهرة غريبة هي ان ما يسمى الثورات العربية، او الربيع العربي والذي لا يحمل من سمات الربيع شيئا الا رغبة من اطلقوا التسمية في التكير بربيع براغ وربيع بكين. في دلالة بعيدة لم يدركها حتى اصحاب الحراك نفسه. دلالة تقول بوضوح ان انتصار الحراك العربي ان هو الا انتصار اخر للمعسكر الاميركي النيوليبرالي على بقايا المعسكر المنافس، وبالتالي انتصار ستراتيجيات وسياسات النيوليبراليين الاميركيين، التي تتضمن، من بين ما تتضمن، شطب القضية الفلسطينية بصيغتها التي سادت ايام ما قبل هذا ” الربيع “. لذلك لم يكن تغييب الموضوع الفلسطيني عن خطاب اصحاب الثورات، من تونس الى ليبيا الى مصر، محض مصادفة، لا ولا مجرد انشغال بالمشاكل الداخلية – كما عملت البروباغاندا على التسويق – بل كانت عملية تغييب ممنهج تمهيدا لفتح باب صفحة جديدة ومقاربة جديدة. لعل نموذجها الدلالي تدمير الانفاق بين مصر وغزة، فيما لم يتجرا عليه حسني مبارك، لتاتي بعدها عطايا امير قطر : خذوا هبة من القاعدة الاميركية ما كنتم تحصلون عليه بذراعكم وانفاقكم !! من الاخذ بالذراع الى الاخذ هبة… وماذا وراء الهبة ؟!!
لن يكون الامر مختلفا بخصوص الضفة التي قررت منذ زمن عدم الاخذ بالذراع واعتادت على المنح…
والتالي ؟ لا بد ان يحارب هذا المنطق الجديد ( والفلسطيني منه في الصدارة) اي نشاط من مثل اعتصام الكالوتي، ولا بد ان يتناقص عدد المعتصمين، لكن مجرد بقاء عدد منهم ايا يكن، هو دليل على ان عملية التصفية لن تمر بالسهولة التي يتخيلها اهل الربيع. خاصة وان اصرار الشباب على الحفاظ على الموعد الدوري في المكان ذاته بما قارب المئتي اسبوعا، يشبه سهر كهنة المجوس على شعلة الهيكل ونجاحهم في صيانتها من الانطفاء منذ قرون. انه بحد ذاته رسالة بليغة، وخنجرا فولاذيا من ارادة لا بد له ان يخترق الضمائر