ليست الاجازة فرصتك كي لا تعمل، بل فرصتك لان تعمل ما تريد، خارج ما هو مطلوب منك.
ايام قضيتها مع مسودة الرواية الجديدة للصديقة سحر خليفة : ” اكثر من حب!” والتي تدور حول حياة وشخصية انطون سعادة. سحر تضطلع بمشروع تنويري جميل : اعادة تقديم ابطال ومفكرين غير فلسطينيين قضوا في نضالهم لاجل فلسطين. وهنا قد يبدو التعبير غريبا بمقياس المرحلة التي عاش فيها هؤلاء. ففلسطين لم تكن للسوري واللبناني والعراقي قضية شعب شقيق او مسالة تضامن ودعم، كما بتنا نتداول في خطابنا الحالي، وانما هي بالنسبة لهؤلاء قضية الامة في خاصرة من خواصرها، جزء لا يتجزا عن سائر مشاكلها، وصراع لا حل له الا في اطار حل ازمة الوجود القومي، بازالة التجزئة واقامة مجتمع – امة – دولة ذات سيادة على كل ارضها وناسها.
من هنا يتبدى ان الفشل الاكبر لهذا المشروع التاريخي ما هو الا وصولنا اليوم الى تجزئة المسائل القومية ضمن القضية القومية الواحدة، واعتبار كل منها قضية قائمة بحد ذاتها. بل واعتبار ان عزلها وحصرها وتحجيمها هو قرار استقلال وطني لا قرار انعزالي يقطع اليد عن القلب والقلب عن الرئة، في اسوا استجابة لمؤامرة سايكس بيكو، ووعد بلفور. وهكذا يخطط الصهاينة والغرب لنا كوحدة ويحاربوننا كذلك، بينما نواجههم نحن – ان واجهناهم – كاشلاء مقطعة فخورين بما نسميه – كما يريدون له – “استقلال قرارانا الوطني ” متناسين انه حتى السرطان الشرس، يمكن القضاء عليه اذا تمت محاصرته وعزله. تشبيه يفترض ان نطبقه على اسرائيل باعتبارها السرطان، ولكن الحقيقة غير ذلك، لانه لا محاصرة اطلاقا لها، لا دوليا ولا عربيا، وبالتالي فانها سرطان يتمدد ويستشري على هواه. اما سرطانات الكيانية التجزيئية التي اخترعت لنا وبتنا اكثر حرصا من اسرائيل عليها، فهي التي تحاصر حتى الخنق، بدءا من حصارها بيد من يهلل ويغني لها.
بذا يكون مشروع سحر خليفة مشروع يستحق التحية. حيث تعمل على احياء ذاكرة تلك الايام الحلوة – على مراراتها – يوم كان انطون سعادة يستشهد لاجل الامة، وبتواطوء مع اسرائيل، ويم كان سعيد العاص يمضي حياته مقاتلا على دروب سوريا الطبيعية مقاتلا الفرنسيين والانكليز الى ان يستشد في مواجهة الصهاينة في فلسطين، ويوم كان عز الدين القسام ياتي من الشام ليروي بدمه ارض فلسطين، الخ… من قائمة تطول. مشروع يعيد الى الضمائر انتفاضة ضد التجزئة وتكذيب واقعي لحالتها المرضية التي باتت مطروحة كحقيقة لا جدال فيها.
غير ان تناول انطون سعادة، وهو النموذج الابلغ على هذا النضال، هو مقاربة لما هو اعمق واشمل من مجرد مقاومة التجزئة، ومن النضال الاستشهادي لاجل فلسطين. فسعادة هو مشروع تاريخي شامل لنهضة امة، مشروع يقوم على رؤية شاملة متكاملة للحياة والوجود والمجتمع، اعتمد على علم الاجتماع وعلى علم السياسية وعلى علم الاقتصاد، ليصوغ عقيدة فكرية كاملة لا تهمل اي تفصيل من شؤون الحياة، وترسي التطبيقات الكاملة لها في جميع المجالات، في اطار نظام شكل يترجم نظاما فكريا واضحا.
ولذا فان ترتيب اسم النهضة، كما اسماها صاحبها بوعي، يضع السورية ثم القومية ثم الاجتماعية ( وهكا ايضا الحزب الذي شكل الهيكل التنظيمي ). ترتيب يقوم على ان انطون سعادة لم يخترع سوريا، فهي وحدة تاريخية قائمة منذ تكون الامم، وحتى في مرحلة ظهور دعوته، كان المناضلون على اختلافهم يدعون الى استقلال سوريا ( بل ان ثورة فخر الدين المعني ضد العثمانيين بالتحالف مع والي عكا ووالي حلب قد هدفت الى الامر ذاته )، وكذلك لم تكن الثورة السورية الكبرى امرا غير ذلك. بل ان الادبيات تتحدث عن ذلك بشكل تلقائي ( جبران خليل مثلا). ننتقل الى المصطلح الثاني : القومية. وهنا ايضا ليس الامر جديدا لان القومية بحسب سعادة هي وعي الامة لذاتها، لوحدتها، لكيانها، وهذا واجب الواعين من ابنائها، خاصة عندما يكون هذا الوعي محاربا من قبل العثمانيين والغرب و الصهاينة. اما المفهوم الثالث، فهو الجديد الخاص فكريا بانطون سعادة عالم الاجتماع والفيلسوف، وهو ما شكل الاضافة الخطيرة التي كانت كافية لجعل حسني الزعيم وموشي شاريت ورياض الصلح وبشاره الخوري والسفارتين الاميركية والفرنسية، ترتبان معا امر الغدر به واعدامه.
هل استطاعت سحر ان تقول كل شيء ؟
مازلنا في المسودة، وسنكتب الكثير لاحقا، لكن اجمل ما فعلته انها لم تضل في اي مفهوم طرحته ( وان كانت قد اغفلت مفاهيم ) مما يدلل على جدية البحث الذي قامت به، كما انها لم تضل في اي حدث تاريخي. ولكنها استطاعت وبمهارة حلوة ان تضع كل هذه السيرة الصعبة في قالب انساني جذاب وروائي لا يسقط ابدا في الخطابية، وضمن سياق حياتي واقعي يجعلم ترى كل شيء من الموقع الفلسطيني، في ربط ذكي بين الحاضر والماضي القريب. عرفت ان تروي عبر سيرة الرجل سيرة امة وبعين فلسطينية.
ولننتظر العمل في صيغته النهائية