زياد الرحباني. ومن الذي لا يتسمر أمام التلفزيون ليرى ويسمع زياد الرحباني؟
لا يهمنا زياد السياسي بل المبدع. لان الإبداع غائب عن شاشاتنا الممطرة بعواصف وسيول الكلام السياسي المهترىء والمحمل بالجراثيم، ولان المبدع الملتزم يجعل من السياسة حياة نابضة لا خريطة هندسية، بدون ان يخطط يتركك تضحك وتبكي وتغضب وتثور وتفكر بأهم الأشياء والمفاهيم، دون ان تنتبه إلى انها كذلك.
مشكلة غياب الثقافي عن البرمجة التلفزيونية الفضائية، اقصاء او تهميشا هي مشكلة طالما صرخنا منها، لانها مسألة مقصودة تصب في صلب العولمة وسياسة السوق، التي تقتضي إبعاد كل ما يحرك الفكر والمشاعر، اللهم إلا غرائز الاستهلاك التي تؤمن ابتلاع المتلقي لكل ما تتقيأه السوق، حتى فيما يسمى فنا.
حسنا، يحسب للميادين انها بدأت تولي اهتماما للثقافي، وربما كان يمكن لاستضافة زياد الرحباني ان تشكل انطلاقة عظيمة لهذا التوجه ( اضافة الى برنامج زاهي وهبي المألوف ) ولكن اللقاء شكل صدمتين:
صدمة إيجابية في ما قدمه زياد، زياد القادر على ان يلخص العالم بكلمة، بقفشة، بحركة رأس، بنظرة، زياد الذي يعرف ان يمرر اعتى نظريات الاقتصاد والسياسة، مشاكل العولمة والطائفية والعدالة الاجتماعية وسياسات الإعلام والمعادلة بين الحرية والضبط، بدون اية كلمة من هذه الكلمات الثقيلة.. الثقيلة على الأذن والثقيلة الدم… مبدع يتحدث للأذكياء وللبسطاء، والأذكياء دائما بسطاء…
وصدمة اخرى باداء غسّان بن جدو. فغسّان محاور ناجح في الموضوع السياسي، إعلامي متمكن وجاد ويتعب على إعداد موضوعه، لكن الإعلام الثقافي شيء آخر.. وزياد الرحباني في الثقافة شيء آخر..
اكثر غسّان من الكلام حد الملل، وقال زياد في لحظة ما: ” اكثر شي بياخد وقت الكلام لانه محدود “. بالغ غسّان في الفصحى المتكلفة التي تغطس في المنجد وتعود بمطولات وبكلام عويص، ويصر زياد على عاميته الشعبية التي كثيرا ما تكون فصحى بدون تشكيل وتتركنا عفويتها البارعة نظن انها عامية، تذكر باحدى مسرحياته: ” ولو الأدب العربي شو عويص!!” حتى اذا بالغ غسّان في احد مقاطعه الاستعراضية اللغوية رد عليه بنكهته المعهودة: ” اجل”.
وإذا ما وصل الحديث إلى الإعلام الفضائي: طالب بضبطه بعبارات بسيطة، لكنها تحمل علما كاملا: ” فلتانين بها السما وما في خطوط حمرا، وقحين وكذابين وبيقلدوا اللي بيقلد اللي بيقلد”!! يتحدث عن مهنية الإعلام الغربي، وغياب مهنية الإعلام العربي اللي بينطلق من الشباك. ويغضب غسّان، تأخذه الحمية في مرافعة دفاعية عن العرب، اتهامية للغرب الذي أهان الرسول وانتهك مقدساتنا واعراضنا… الخ فيعود الرجل ليوضح له انه لا يقصد المضمون، لكن خبث الأسلوب المتحضر، مهارة البي بي سي في ان تعبر عن موقف دون ان تقفز المذيعة من الشاشة ودون ان يشتبك المتحاورون بالأيدي والاقداح ودون ان تردح القبائل بقصائد الهجاء والمدح و… دون الكذب المفضوح المكشوف.
ناقش مستقبل التلفزيون والضبط القانوني بأبسط الكلام: ” الانترنت مش راح يضعف التلفزيون لانو الناس ما الها جلد تقعد تفتش وتدخل وتطلع، التلفزيون بتشوفو هيك، بيجي لحالو، انت ونايم “. الضبط ضروري، لما الناس بتتجاوز القانون شو بيضبطهم ” بالفصيح ” أو بالانجليزي!!. مرة اخرى يؤشر الى “فصيح” المذيع الذي يسرد في مطولات لا أول لها ولا آخر، متفلسفة مصطنعة مرتبكة، لا تعرف ماذا تفعل بأوراق كثيرة أعدت مسبقا، وهذا الرجل الغير شكل، اللي بياخدك محل ما بدو، وبيلقطك لحظة ما بتتوقع: – سيداهمنا الوقت. – وانت كمان بدك تداهم؟!
سؤال معلوك تقليدي: هل العمل الفني الذي يعبر عن انتماء؟… ويبحلق زياد. سؤال طويل عن الجاز، وزياد: -لا جاز ولا ماز، في بيتي صورة زكريا احمد. – يعترض غسان: الجاز يعبر عن ثورة. وزياد:- البلوز بالنسبة لي مرحلة من العبودية. سؤال اخر معد بدقة، وزياد: – منين كمان جايب هالقصة عن الفيسبوك؟
لن نسرد عليكم الحوار، عودوا له. ولكن عفوا.. لم يكن هناك حوار… كان هناك واحد مبدع، مكسر كل القوالب ومسترخ في كرسي ينظر الى العالم ساخرا ببساطة، يختزن في كله عالما من الضحك ولا يضحك، وواحد مبهور، مربك، داخل كل القوالب، لا يملك الا ان يضحك، خاصة عندما يصدم ويظل سؤاله الذي لم يطرح: – لم افهم… ما العمل؟ ماذا افعل مع هذا الرجل العجيب؟
نشكر غسان كمدير لانه جاء بزياد، لكننا نلومه لانه أصر على مجال ليس مجاله. ربما اعجابا، وربما لانه ضن على غيره بهذه الفرصة، لكن اعط خبزك للخبّاز…
د.حياة الحويك عطية
إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.