في كتابه المعنون ” في العمق الستراتيجي – دور تركيا ” يتحدث احمد داود اوغلو عن دفع الحدود التركية الى الحقل الجيوسياسي التركي، وهو يحدد هذا الحقل بناءا على متطلبات الامن التركي التي تبدا من القفقاس ومن اواسط الشرق الاوسط ووسط اوروبا. معتبرا ان هذا الدفع يستند الى مشروعية تاريخية هي مشروعية الامبراطورية العثمانية.
وبالامس اشتكى اردوغان ساخرا من ان الولايات المتحدة تدعم ولا تدعم، قاصدا عدم حماس هذه الاخيرة للتدخل العسكري التركي في سوريا. واذا كان سبب تلكؤ الولايات المتحدة يعود الى المرحلة الانتخابية، فان الزعيم التركي لا يريد الانتظار، اذ ربما تغير اتجاه الموج بغير ما يريد، رغم اطنان الاسلحة والاف المسلحين الذين يدفع بهم الى الداخل السوري.
من المعروف ان حنين الامبراطوريات الخالية الى هيمنتها الامبراطورية، يظل محركا للكثير من السياسات الحديثة وعلى الاخص الامبراطوريتان الانكليزية والفرنسية، لكن احدا من هؤلاء لم يتجرا على ان يكون بهذه الصفاقة، ربما لان الاوروبي اكثر خبثا وتقدما في الخطاب الديبلوماسي.
كذلك فان الدعوة الى استعادة الهيمنة لا تعني بالضرورة الاحتلال العسكري المباشر، وانما تعود الى المفهوم القديم للفرنسة او الجديد للتهويد وما بينهما التتريك، فهل نسي جيلنا حكايات جدته عن ايام سفربرلك؟ او ما تعلمه في المدرسة عن التتريك؟
التتريك الجديد بداته العثمانية الجديدة بالاساليب الناعمة، وهللنا له بكل سذاجة العرب وانفعاليتهم، فرحين بان الحكم الاردوغاني في تركيا جعلها تغير وجهة نظرها من اتجاه اوروبا الى اتجاه العالم العربي. فاذا بهذا الاهتمام الجديد يغرق الاسواق العربية بالبضائع التركية ولا مقابل بالطبع لاننا مجتمعات مستهلكة لا منتجة. واا بالمسلسلات التركية تغرق الشاشات العربية، محققة سلة من الاهداف: اولها ضرب الانتاج الدرامي العربي، وفي طليعته السوري، وثانيها ضرب الوعي العربي بمضمون قيمي مشوه وسطحي ولا اخلاقي، يجر كل ضعاف العقول والمستعدين للهرب من واقعهم المتعب، وثالثها تنشيط غير مسبوق للسياحة التركية، بفعل التسويق المبرمج الذي تقدمه هذه المسلسلات، حيث جر مهند كما من العرب الى تركيا، كما لم تفعل وزارة سياحة. وهكذا سوقوا علينا سياحتهم وتخريبهم القيمي وجعلونا ندفع التكاليف مرتين: مرة بثمن المسلسل ومرة بقطع الفرصة على مسلسل عربي مكانه.
اما في السياسة، فقد لعب اردوغان بعقولنا وهو يقف لبيريز في دافوس، رغم ان وقفته لم تكن تهتم لنا على الاطلاق وانما لتركيز موقع تركيا في الاقليم ( وربما كانت مدروسة ايضا لاكتساب شعبية بيننا تحضيرا لما سياتي ) اما شهداء السفن فقد كانوا من جماعة اربكان الذي انقلب عليه اردوغان، وليس بينهم من ينتمي الى العدالة والتنمية. بالمقابل تنامى حجم التبادل التجاري بين اسرائيل وتركيا، كما لم يسبق له مثيل، ولم يتاثر التعاون الستراتيجي
واما في الحقوق المبدئية، فاول ما دفعناه ثمنا لهذا الغزل الخادع، كان الغاء قطاع الاسكندرون المحتل، والذي تفوق مساحته مساحة لبنان، من مناهج الدراسة السورية.
انتهت الاساليب الناعمة وجاء دور اللعب على الوتر المذهبي، فبما ان العرب الشيعة مرتبطون بايران، اذن فلا بد للعرب السنة من ايجاد من يتبناهم، والفرق ان هؤلاء هم من يدفع للراعي الجديد ويقدم له كل الدعم، ويكفيه هو ان يقف على راس القبيلة. فحتى في الحالة المذهبية – والحمد لله لم يعد العرب يعرفون كيف يكونون قادة، ولا بد لهم ان يبحثوا عن ” سوّاق حطم ” يوهمهم او يوهمون انفسهم بانه راع ابل او غنم. والنتيجة، اضافة الى اذكاء الشرخ المذهبي ازاحة مصر والسعودية عن واجهة القيادة الى الموقع الثالث والرابع بعد تركيا وقطر، هذا في حين ان التعاون التركي – الايراني لم يتوقف فيما يتقاتل العرب سنة وشيعة.
اما وقد تحقق الهدفان التحضيريان فقد بدات عملية التتريك بالقوة. وثأر العثمانيين مما اسماه داود اوغلو الخيانة العربية للدولة العلية في الحرب العالمية الاولى، لم ينطفىء.