اثنان وتسعون صفحة، هي الوثيقة التي اعدها البابا بنديكتوس لتوقيعها ونشرها انطلاقا من لبنان، تحت عنوان ” مسيحييو الشرق الاوسط.” وهي وثيقة كتبها البابا بناءا على الاراء والاستشارات التي قدمها السينودوس الذي عقد في الفاتيكان عام 2010 حول مسيحيي الشرق الاوسط، وضم مئتي خبير ورجل دين
واذ لا يمكن لاحد الا وان يثمن الدعوة الى الحريات العامة وفي طليعتها، حرية ان يختار الانسان دينه ويعلن جهارة ايمانه ويمارس طقوسه،كذلك لا يمكن لاحد الا وان يثمن تاكيد البابا على ان احدا لا يستطيع ان يقول : انا املك الحقيقة فالحقيقة لا يملكها احد ولا يحق لاحد ان يفرضها على الاخرين، منطلقا من اقرار هذا الى الدعوة الى حرب شاملة ضد الاصوليات، قائلا انا اطلق نداءا ملحا الى كل القيادات الروحية في الديانات الثلاث لان يفعلوا كل ما بوسعهم لمحاربة هذا التهديد الذي يمس بشكل قاتل جميع المؤمنين، داعيا المسلمين والمسيحيين الى تجاوز الخلافات العقائدية كي يستطيع مسيحيو المشرق ان يتمتعوا بمواطنة كاملة والا يعاملوا كمواطنين او مؤمنين من الدرجة الثانية.
ولكن لا بد من تسجيل ملاحظات اساسية على الوثيقة، او بالاحرى ما اعلن منها لاننا لا نملكها كاملة :
الملاحظة الاولى هي رفض البابا عن لمفهوم التسامح الذي طالما اعترضنا عليه وكان سائدا في الخطاب السياسي والديني، ودعوته الى مفهوم الحرية والحق، لان اقرار الحق ليس تسامحا بل واجب وفرض. لا تسامح في ان تقر لانسان ان يكون مختلفا عنك، ويتمتع بمواطنته كاملة.
الملاحظة الثانية، تقترن بالاولى وهي ترسيخ مبدا المواطنة الكاملة. فالمواطنة حق لا مصدر له الا الانتماء الطبيعي لمجتمع ولوطن، بصرف النظر عن العرق او الدين او اي شيء اخر. هذا من حيث المبدا، اما من حيث التطبيق فاننا عندما نتحدث عن مشاكلنا في العالم العربي تحديدا، وصراعاتنا التاريخية الداخلية المدمرة، بناءا على التفسيخ الديني والمذهبي والاتني، فاننا لا يمكن ان نجد حلا ابديا الا دولة المواطنة، التي تعني المساواة الكاملة بناءا على القانون الخالي من اي تمييز.
الملاحظة الثالثة، جغرافية ولا بد من التوقف عندها، وبناءا على خريطة نشرتها مؤخرا جامعة كاليفورنيا وهي ان الوجود المسيحي فيما يسمى الشرق الاوسط يتوزع كالتالي : لبنان 7،18%، سوريا3،9%،( 7،8% فلسطين و 5،3 اسرائيل) مصر 9،7% الاردن 3،6%، العراق 3،6%، ايران 03،1 %. توزيع يقول بوضوح ان هذا الوجود في المنطقة يعني سوريا الطبيعية ومصر، واقلية طفيفة في ايران. وهنا لا بد من التوقف عند عدة نقاط، منها:
اولها واهمها يبنى على الفارق الكبير بين هذه النسب وبين ما كانت عليه الحال قبل خمسين سنة على سبيل المثال، او حتى قبل عشرين سنة. وعودة ذلك الى هجرة وتهجير العرب المسيحيين من هذه الدول. فالهجرة الكثيفة نجمت عن اكثر من سبب تتوزع الدول المذكورة : غياب المواطنة الكاملة والمثال الابلغ مصر، والحروب الاهلية الطائفية والمثال الابلغ لبنان، والاحتلال الاجنبي – وهنا الاهم، ويتركز في فلسطين والعراق. وهذا ما يفرض بالدرجة الاولى، منطقيا وضميريا، الادانة الواضحة للاحتلالين ولعمليات التهجير التي مارساها، والمخطط السياسي الكامن وراء سلوكهما. ومن جهة اخرى الادانة الكاملة للمسؤولية الغربية في كل ما سبق ( كما يطلب من المسلمين الاعتراف بالمسؤولية العثمانية التي كانت رائدة في التمييز وخلق اسباب الهجرة والتهجير)
وهنا يشار الى ان هذا البعد كان معلنا وواضحا في اعمال السينودوس عام 2010، وفي الوثيقة الختامية التي صدرت عنه، واحتفينا بها يومها، ولكنه عاد فغاب عن وثيقة الحبر الاعظم، فهل ياخذ البابا من تعبير القيادات المسيحية العربية التي تذهب اليه بهمومها وقضاياها ما يعحبه ويهمل ما لا يعجبه.؟
ثانيها، انه لا بد من التمييز ايضا فيما يخص موضوع المواطنة، بين سوريا ولبنان، والاردن، ومصر، والعراق قبل الاحتلال وبعده وفلسطين قبل الاحتلال وبعده.
فلبنان يضمن حق المسيحي في المساواة بناءا على محاصصة طائفية لا بناءا على حق المواطنة. اما سوريا فهي البلد العربي الوحيد الذي لم يميز بين مسيحي ومسلم في الحقوق المدنية والسياسية، هي البلد الوحيد الذي راينا فيه، فارس الخوري رئيسا للوزراء، واكثر من وزير للخارجية، ومن مندوب في الامم المتحدة ومجلس الامن واكثر من قيادي عسكري اخرهم قائد الجيش الشهيد داود راجحة ( ولا علاقة لهذا اطلاقا بما يمكن ان يقال عن تمييز بين انصار النظام القائم او الحزب فهذا امر اخر لسنا بصدده هنا) كما ان التمييز لم يطل يوما المواطنين العاديين في حقوقهم وواجباتهم. ويقترب الاردن من هذه الحالة، حيث يماثلها على مستوى المواطنين العاديين، فيما يتوقف عند حد معين من سلم الحياة السياسية. يبقى العراق، فعراق ما قبل الاحتلال كان شبيها بسوريا، وان لم يبلغها، اما عراق ما بعد الاحتلال فيقترب من لبنان لكن مع مخطط عنفي رهيب يهدف لتهجير المسيحيين وقد نجح بذلك بشكل كبير، دون ان يقدم الفاتيكان او غيره من المرجعيات تدخلا او ادانة او حلا يضمن هؤلاء في ارضهم التي وجدوا عليها منذ فجر البشرية.
نصل الى مصر وهناك الطامة الكبرى، فحوالي ثمانية مليون مواطن، لا يجدون ممثلا لهم في الحكومة في حين يعين ممثلوهم في البرلمان تعيينا بينما ينتخب المسلمون ممثليهم. ولا يغير في ذلك شيئا ان يعين الرئيس مرسي نائبا قبطيا للرئيس. المهم ان يلغى اي تمييز في الحقوق بين كافة المواطنين، ايا تكن عقيدتهم. وليصل من يصل، الى حيث تحمله صناديق الاقتراع. فالمهم هو المساواة في الحياة اليومية المدنية لا تعيين رموز قد لا ترمز لشيء.
اخيرا كيف يتحدث البابا عن الحق والعدل والحرية ولا يدين بوضوح اسوا حالة احتلال وتمييز عنصري في العصر الحديث. وهل يجوز ان يساوي الخطاب البابوي بين المسسيحيين والمسلمين واليهود، في المشرق، دون ذكر اسرائيل؟