” هناك اوروبا وهناك اسيا وهناك عالم بينهما، هو روسيا”. هذا المقولة شائعة لدى السلاف الذين كانوا دائما، ولاسباب تتعلق بالهوية ضد توجه بلادهم نحو الغرب. غير ان هذا الميل لم يترجم دائما على ارض الواقع السياسي، خاصة مع الاباطرة الكبار الذين بنوا روسيا، وهم من اصول اوروبية. لكنه ترجم في مراحل اخرى من عهد الامبراطورية السوفيتية. وهكذا ظلت روسيا محكومة بقدر الجغرافيا الذي يجعلها تنظر باتجاهين الشرق والغرب معا. فيما يشكل ميزة ولعنة.
اختيار مدينة فلاديفوستوك الواقعة في اقصى شرق روسيا، لانعقاد القمة السنوية لمنتدى دول اسيا والمحيط الهندي، الذي تستضيفه روسيا للمرة الاولى يحمل اكثر من رسالة. فالمدينة بوابة روسيا من جهة الشرق، تبعد عن العاصمة موسكو 6430 كم. هي اكبر مدينة وميناء في الشرق الاقصى الروسي وعاصمة اقليم بريموريه، القائم على شبه جزيرة مورافيوف – امورسك على سواحل بحر اليابان. هي مركز علمي وثقافي عالمي استثنائي، كما انها مركز ثقافي وفني استثنائي، لكنها ايضا مدينة الانشاءات العسكرية التي لا مثيل لها في العالم، بحيث استحقت اسم القلعة تيمنا بقلعتها التي تعتبر اكبر القلاع البحرية الروسية والتي حاول اليابانيون قصفها خلال الحرب العالمية لكنهم عجزوا عن الحاق اي ضرر بها فاضطر قائدهم الى قرار التراجع عن مهاجمتها. هي ايضا مدينة التعدد الديني الفريد ففيها كل الاديان والمذاهب والطوائف المعروفة في العالم. واخيرا لا اخرا هي عقدة سكك الحديد بين سيبيريا وبقية الاتحاد الروسي، وبين اوروبا واسيا.
اختيارها اذن، هو رسالة اولى للعالم بان الحلم الذي يراود البعض حول تقسيم روسيا يواجه وحدة مثلها مثل قلعة فلاديفوستوك، ورسالة ثانية بان هذه البلاد هي ثراء علمي ثقافي سياسي عسكري، وثراء تعددي في مواجهة من يفكرون ايضا بحلم زعزعة البلاد بحروب دينية، ورسالة ثالثة بان لروسيا محط قدم قوي جدا على المحيط الهندي الذي باتت اهميته تتقدم على الاطلسي، حتى في السياسة الاميركية، فيما سجله خطاب اوباما الشهير. ورسالة رابعة بان لهذا البلد ثنائيته الفريدة بين اوروبا واسيا، لا تشاركه فيها الا تركيا ولكن بمجال لا يقارن من الامكانيات.
اما الرسالة الاهم فاقتصادية بحتة، ونحن نعيش عصر الغاز الذي تراهن عليه روسيا في صعودها الى موقعها الدولي من جديد. دون ان يعني ذلك اهمالها للمصادر الاقتصادية الاخرى التي تشكل مضمون التبادل التجاري. وهنا تحيك موسكو شبكتها في الاتجاهات الثلاث : اوروبا، اسيا واميركا.
القارة العجوز هي التي تستوعب 50% من صادرات روسسيا التجارية، ولذلك تعمل موسكو ما بوسعها لعدم تفجر منطقة اليورو. لكنها تفهم ايضا ان اوروبا لم تعد قادرة على ان تكون مشتريا اساسيا للغاز والنفط، ليس من حيث الكمية فحسب، بل ومن حيث السعر، حيث ان اوروبا تشتري الغاز بنصف الثمن الذي تدفعه اسيا. هذا اضافة الى ان دولة كفرنسا توزع مشترياتها بين النروج23% وروسيا 15% والجزائر 14%. هذا فيما يتوقع الخبراء ان تتضاعف صادرات روسيا الى منطقة الابيك ثلاث مرات من الان وحتى عام 2020 ( 22 الى 25% مقابل 9% حاليا) حيث. حيث سيشكل استهلاك اليابان كوريا الجنوبية والصين حتى ذلك التاريخ 50% من الاستهلاك العالمي، وهي دول تقع جميعا امام شواطىء فلاديفوستوك. وستكون اليابان اهمها لانها المستورد الرابع للغاز في العالم وهي تتجه نحو روسيا بعد انفجار فوكوشيما. اضافة الى سببين اخرين يضعانها في المقدمة وهما تخوف روسيا من تنامي قوة الصين، واعتماد هذه الاخيرة على غاز كازاخستان الى جانب الغاز الروسي.
لكننا اذ نقول الغاز لا نقول البيع فقط وانما ثلاثة امور اخرى : توفره، استخراجه، نقله وبيعه.
في الجانب الاول، الغاز والنفط متوفران بكميات هائلة في روسيا، حيث ان مخزون حقل واحد يقع تحت بحر بارنت يقدر 400 مليار متر مكعب، بحيث يعتبر اكبر حقل نفطي في العالم. لكن المشكلة ليست اطلاقا في وجود الثروة السوداء من غاز ونفط، المشكلة اولا في حاجة الروس الى استثمارات وكفاءات فنية في هذا المجال، وفي عملية النقل. وعليه يتم تنفيذ مشاريع الاستخراج بالتعاون بين غاز بروم وشركات غربية مثل توتال الفرنسية وستاتويل النروجية وشل البريطانية، ويبدو ان موسكو قررت الا تهمل التعاون مع الولايات المتحدة، التي اصبحت بدورها دولة منتجة للغاز، فيما يدل عليه التعاون الجديد بين شركة النفط الروسية الرسمية روزينت التي يراسها ايغور ستشين القريب جدا من بوتين، وبين اكسون موبايل. لياتي ذلك على حساب توتال الفرنسية. فيما ترجم، في احد وجوهه بتصريحات هيلاري كينتون حول رفع العقوبات عن الصادرات الروسية، من جهة، واستشراس فرنسا في الملف السوري من جهة ثانية.
اما النقل فيشكل المشكلة الاصعب، لان البلاد لا تملك خطوط الانابيب الكافية لاستيعاب نمو صادراتها المتنامية. مشكلة النقل تحل حاليا بتسييل الغاز ونقله عبر ناقلات بحرية الى اليابان، خاصة. غير ان موسكو لا تملك حاليا الا مصنعا واحدا للتسييل تديره بالتعاون مع شيل وميتسوي. لذلك اعلنت موسكو في مؤتمر الابيك عن انشاء مصنع تسييل جديد في فلاديفوستوك بالتعاون مع العملاق الياباني فار ايست غاز، بحيث ستبلغ الطاقة الانتاجية لهذا المصنع 10 مليون طن سنويا عام 2017. كما اعلنت عن موعد تشغيل خط انابيب VSTOالممتد من سوكوفوردينو الواقعة على الحدود الروسية الصينية الى مصب كوزمينو القريب من فلاديفوستوك.
ستراتيجيات وخيارات تبدو اقتصادية في جوهرها، لكن فصل الاقتصاد عن السياسة انتهى منذ كينز، ليحل مكانه مفهوم الاقتصاد السياسي، ولذا يصر خبراء الجيوبوليتيك الروس على ان ازمة القارة العجوز ليست فقط ازمة سياسية وانما هي ايضا ازمة سياسية، كما يقول يقول ليونيد ايفاكوف، رئيس اكاديمية القضايا الجيوبوليتيكية : ” ان ازمة اوروبا هي ازمة غربية، ازمة حضارة ارادت ان تفرض نموذجها على الدول الاخرى في العالم، اما روسيا فهي مؤهلة لان تقدم طريقا ثالثا “