كم أفواه، مصادرة وإغلاق صحف، وتقييد حرية الرأي والتعبير ومطاردة صحافيين، إحالة إلى محكمة الجنايات، إلى محكمة الجنح، منع سفر. هذا هو جزء يسير من التعابير التي تداولتها أوساط الاعلامين المصريين في الأيام الأخيرة، وكل منها تشكل زهرة فواحة في حديقة الحريات العامة وحرية الرأي، إلى جانب أخواتها في بستان الربيع العربي اليانع. فهل بدأت معركة الحريات مع نظام جديد في مصر، وهل ستكون المرة الأولى التي يحصل فيها تغيير جذري على بيئة صحافة وادي النيل التي احتضنت منذ مطلع القرن التاسع عشر الصحافة العربية القادمة من كل الاقطار، لسبب وحيد فريد وهو أن الأقطار الأخرى كانت تخضع للقمع العثماني فيما كانت بلاد النيل هي وحدها التي تتمتع بالحريات : حرية التعبير والحريات الاجتماعية والثقافية والسياسية. كما تتمتع بالقدرة على التعددية القومية والدينية بحيث نرى سليم وبشارة تقلا، وجرجي زيدان، وروز اليوسف يؤسسون “الأهرام” و”الهلال” و”روز اليوسف”.. وقس على ذلك، فيما جعل من مصر ارض النهضة العربية وارض الانفتاح وأرض الإبداع، وذاك ما لا تكونه بغير تلك الحرية والتعددية.
وبهذا الوعي توقع فنان الكاريكاتور عمر عكاشة مرحلة سوداء، وبشرت الروائية أمينة زيدان بنذير أسود، وتوقع الصحافي وليد الشرقاوي تكميم الأفواه. الشرقاوي برر توقعه بأنه لم يعد رأس في الدولة الآن إلا رأس مرسي، ولكن المشكلة ليست هنا وإنما في أن النهضة التي بشر بها الرئيس ويعول عليها، هي كما أوحى له مستشاروه ومن وضعوا برنامجه الانتخابي، توفير استثمارات وضخ أموال فقط، ولذا فانها ستفشل، وسيعمد الحكم إلى كمّ الافواه كي لا تتحدث عن فشلها.
أما عكاشة فأوضح مبرراته بالقول إن الرئيس يعلم جيداً بأن هناك الكثير من أبناء الشعب المصري معترضون على كونه رئيساً لمصر، لذا فهو يتخذ أسلوب الحزب الوطني، في حين قالت زيدان إن الكارثة هي في إقصاء الكفاءات لمصلحة الأصدقاء والمحازبين. وذلك تعليقاً على إقالة عدد من رؤساء تحرير الصحف وتعيين بدائل مقربة من الحكم مكانهم وعلى رأس هؤلاء عبد الناصر سلامة الذي عين رئيساً لتحرير “الأهرام”، فرد عدد من صحافيي المؤسسة وأسر شهداء ثورة 25 يناير، على تعيينه بوقفة احتجاجية أمام مبنى الصحيفة. وكان الروائي الكبير ورئيس تحرير “الاخبار”، جمال الغيطاني، قد سبقهم إلى نعي مصر، مصر الحضن والرحم الذي تحدثنا عنه أعلاه.
رؤساء التحرير الجدد بدأوا مشوارهم الربيعي بمنع نشر مقالات عدد من كبار الكتاب. ثم جاء دور الملاحقات القضائية، فأصدر النائب العام المصري عبدالمجيد محمود قراراً بمنع سفر الإعلامي توفيق عكاشة رئيس فضائية “الفراعين” والصحافي إسلام عفيفي رئيس تحرير صحيفة “الدستور”، ثم لم يلبث أن أحالهما إلى محكمة الجنايات بتهمة إهانة الرئيس مرسي. كما أحال أربعة أشخاص آخرين إلى محكمة الجنح بتهمة محاولة الاعتداء على موكب رئيس الجمهورية.
لكن مصر، بارثها الكبير وبمؤسساتها النقابية والشعبية، لا يمكن إلا أن تتحرك للدفاع عن مكاسبها التاريخية، وعلى رأسها لجنة الدفاع عن استقلال الصحافة، التي بادرت ودعت القوى الشعبية الأخرى والاحزاب لدعمها. خاصة أن المعركة الحقيقية هي معركة كتابة الدستور الجديد، وتحديده للحريات الصحافية وغيرها. بدأت اللجنة بتشكيل لجنة دائمة للدفاع عن حق الشعب المصري في التعبير عن الرأي، وتنسيق جهود اللجنة في استخدام جميع الإجراءات الاحتجاجية السلمية لمواجهة مصادرة وإغلاق الصحف وتقييد حرية الرأي والتعبير ومطاردة الصحافيين. وفيما بدا تهديداً بالتصعيد، جاء في بيان اللجنة الذي تلاه، وكيل أول نقابة الصحافيين، جمال فهمي، أنها تتمسك بحقها في حجب الصحف وتظليم شاشات الفضائيات كوسيلة احتجاجية على تقييد الحريات العامة.
إنها معركة الحريات في مصر، ولكنها معركة الحريات لكل العالم العربي، بربيعه وشتائه وخريفه، لأن مصر كما يقول نادر فرجاني، هي دولة الاقتراح للعالم العربي كله. اقتراح كان يوماً اقتراح نهضة، وكان يوماً آخر اقتراح ثورة، ويوماً آخر اقتراح تحرير، ووقع يوماً في سقوط كونه اقتراح تبعية، وها هو اليوم يهدد بأن يصبح اقتراحاً لايستبدل إلا أحادية بأحادية واقصاء باقصاء وتعتيماً بتعتيم.