تجربة مثيرة ولكنها ليست فريدة: نشرة أخبار تلفزيون الجديد، ومثلها الجزيرة تبدأ بعنوان: اشتباك بين الجيش الأردني والجيش السوري على الحدود. تستقبل النشرة شاهدين: فيروي احدهم كيف انه يسمع طلقات نار ولا يعرف من أين. ثم يروي الثاني ان أعدادا من اللاجئين السوريين تجتاز الحدود كل يوم. لا شيء في شهادة الاثنين عن اشتباك. تنتقل إلى محطة اخرى، فتسمع الخبر بصيغة اخرى: القوات السورية حاولت -على أراضيها – منع بعض اللاجئين من الهرب إلى الأردن، الاّ انهم تمكنوا من ذلك وبينهم جريح، وعندما دخلوا الأراضي الأردنية تولى الجيش حمايتهم ونقل الجريح الى مستشفى الرمثا. تذهب إلى ثالثة فتجد الناطق الرسمي باسم الحكومة يؤكد الرواية الثانية وينفي حصول اشتباك بين جيشين.
هذه التجربة تتكرر مئات المرات كل يوم، ومن منا ينسى “شاهد العيان ” من حمص،على قناة الجزيرة الذي نسي المخرج ووضع على الشاشة انه يتحدث من لوس انجلوس؟ والاخر الذي تحدث من ليبيا مقنّعا وفي نهاية كلامه نسيه المذيع وقال ” شكرا لمراسلنا في طرابلس “. وبشكل اكثر تطورا وتقنية، رأينا التسجيل الصوتي الذي زور على لسان الرئيس السوري بعد اغتيال القادة الثلاثة.
نظريا ظن الكثيرون ان قاعدة غوبلز: اكذب اكذب، حتى تصدق نفسك ويصدقك الآخرون، قد دفنت مع الإعلام النازي. كما ظن العرب ان دخولهم مرحلة الاعلام الفضائي قد نقلهم من اعلام الدولة الذي يركب لهم الخبر كما يريد الى اعلام عربي عابر للأقطار ينقل لهم حقيقة الأمور في في وطنهم الكبير. غير ان واقع الأمر ان القاعدة الأولى لم تغب يوما عن الإعلام العالمي، مع استثناءات قليلة جدا، وان الإعلام العربي قد انتقل من مرحلة الكذب المحدود لصالح حكومة معينة الى مرحلة الكذب الكبير في إطار النظام العالمي الذي بدا جديدا عام 1990. وكما في كل عقود الباطن التي تشكل احد ميزات هذا النظام فان الامبراطورية الأمريكية ( ومن ورائها الصهيونية العالمية ) قد اوكلت إلى مستثمرين عرب مهمة الحملات الكاذبة التي تحتاج لشنها من وقت لآخر. وذلك بعد ان يكون قد ترك لهذا الإعلام ان يكون صادقا في فترات الهدوء، مما يكسبه مصداقية تسوق كذبه في مراحل الأزمات.
انها الحرب! حرب الأمة منذ مطلع القرن، في مرحلتها الجديدة.
الجيش الأميركي يخاطب الاعلامانها الحرب! وانه الإعلام الذي لعب منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى الحرب الثانية ومن ثم الحرب الباردة بما تخللها من حروب ساخنة، الدور الذي لا يقل عن دور الجحافل العسكرية. ولذا كان للجيش الأمريكي ثلاث وكالات مركزية تحمل اسم وكالات اعلام الحرب، اضافة الى تفرعاتها في مختلف قطاعات الجيش من اصغرها الى اكبرها. وهذه الوكالات هي من اطلق نظرية الحرب السيكولوجية ووضع اصولها وقواعدها، التي اضاف ضمنها الانجليز والفرنسيون قواعد تفصيلية ( خاصة تشترشل واللورد بونسومبي الذي لخص كتابة قواعد اعلام الحرب السيكولوجية ) واذا عرفنا ان السي اي ايه ليست إلا واحدة من هذه الوكالات الثلاث التي حلت عام 1945 واعيد تشكيلها بأسماء جديدة. ومثلها ايضا وكالت (ار دي اي ) اي البث الاذاعي الدولي. عرفنا ما معنى ان تبنى الفضائيات العربية على يد خبراء اجانب يتولون توجيه عملها، وما معنى ان يتولى ذلك ايضا محليون تدربوا ضمن هذه الاطر ومن اهمها متدربي (ميت ) ميديا انجامنت تيم التابع لـ (سنتكوم)، اي القيادة الوسطى للجيش الأمريكي. وهو جهاز اعلامي انبثق عنه فور احتلال العراق جهاز اسمه ( ايميت ) اي ايراكي ميديا انجامنت تيم.
لا نقول ان كل ما يقال عن سورية او عن غيرها هو اكاذيب، لكن الاكاذيب تذاب في ماء المادة الاخبارية بقدر الحاجة وبقدر الخطة التي اوكلت الى المؤسسات المبرمجة او الى الصحافيين الماجورين، دون ان يطال ذلك اطلاقا مواقف الاعلاميين الذين يتبنون نظرة معينة عن الصراعات الداخلية القائمة، لاننا لا نتحدث عن الرأي وهو حق طبيعي، وانما عن الخبر ودقته وهما حق وواجب وامانة