منذ التسعينيات ادركت انتلجنسيا النظام العالمي الجديد انه لا بد من التعامل مع التطلعات الديمقراطية للشعوب العربية. وكلنا يذكر الضجة ” الديمقراطية التي رافقت احتلال العراق.
غير ان ايقاظ التطلعات الديمقراطية العربية لم يكن امرا سهلا، لان النضال لاجل هذه القيمة الحقيقية كان متجذرا وتاريخيا لدى جمهور كبير من النشطاء والمثقفين وقد دفعوا ثمنه ما لم تدفعه – ربما اية شعوب اخرى. ولذلك بدا ان ترك التغيير والدمقرطة لسيرورتهما الطبيعية سيؤدي الى قيام قوة حقيقية فاعلة لن تكون باي حال في سياق المخطط الامريكي للشرق الاوسط.
وقد جاءت ثلاث مفاجآت لتعزز هذه القناعة، وتطرح بالحاح ضرورة العمل على الالتفاف عليها: المفاجأة الاولى تمثلت فيما سماه جورج قرم ” هيدرا القومية العربية ” التي ظنها الجميع قد ماتت فاذا هي تلتهب في كل الشوارع، لا تأييدا لصدام حسين بقدر ما هي دفاعا عن ارض الامة وحريتها. وعندما انبرت باحثتان تونسيتان الى البحث عن اسباب هذا الالتفاف خرجتا بثلاث نتائج: إحساس الكرامة الذي نجح صدام حسين في إحيائه لدى الجماهير، وربط القضية العراقية بالقضية الفلسطينية والمرارات المتراكمة لدى فقراء العرب ضد ثروات البترول الضخمة أو بتعبير آخر غياب العدالة في توزيع الثروة وفي طريقة تبذيرها. استنتاجات ثلاثة تنبع كلها من الإحساس المشترك الذي يشكل أساس الإحساس القومي. وهي تشكل تحديات كان من شأنها أن تعيق المشروع الاقتصادي السياسي المرسوم لما بعد الحرب. كما كان من شأنها أن تؤدي إلى إحداث تغييرات كبرى في المنطقة. يحددها جورج قرم بـ “العودة الى الانتاج”، وذاك ما اقتضت المصالح الامريكية الالتفاف عليه بنشر ثقافة الاستهلاك كي تظل “النخبة العربية منشغلة كليا بإدارة العائدات النفطية التي تشكل المادة الأساسية للتصنيع في مجتمعات أخرى أجنبية وربما معادية”
المفاجأة الثانية تمثلت في الانتفاضتين الفلسطينيتين اللتين كادتا أن تربكا المشروع الإسرائيلي. ليس في فلسطين فحسب وإنما في العالم العربي.
أما المفاجأة الثالثة والخطيرة فهي تحرير جنوب لبنان، وإعادة إحياء نموذج المقاومة في جو من الأمل والاصرار.. وأخيرا لا آخرا جاءت المقاومة العراقية التي لم يكن، حتى للذين توقعوها، ان يتصوروا سرعتها وفاعليتها، وعجز الامريكيين إزاءها
ومنذ التسعينيات تمثل الالتفاف على كل هذه المخاطر في رفع شعار دمقرطة النظام السياسي العربي، الذي يشكل الحلم الاكبر للمواطن العربي الذي يعاني من القمع والديكتاتورية والاوليغارشية، وافراغ هذا الحلم من معناه او تحميله معاني جديدة لا تخرجه عن السياق الامريكي. وباختصار لا تشكل الحلم الذي يعني محرك النضال المرير الذي يخوضه المناضلون في الاقطار العربية منذ الخمسينيات. بل تقود الى تبرير للاحتلال، وتكون طريقا للمحاصصة الطائفية او لمقايضة قمع بفوضى وبظلامية جديدة. في غياب الاحزاب السياسية الحقيقية، الحياة السياسية، الحريات السياسية وبالتالي الصراعات الفكرية المؤسسة للمواقف. مما يؤدي الى عدم بلورة شخصية المواطن بعيدا عن الانتماءات الفئوية على اختلافها.
اضافة الى إن الأهداف المحددة التي تتمثل في “نشر النظام الاجتماعي – الاقتصادي الأمريكي مكانياً وأيديولوجياً”، وفي التمركز في منطقة الشرق الأوسط، النفطية والجيواستراتيجية كما في تأمين الأهداف الإسرائيلية في هذه المنطقة، قد افرزت بدورها الحاجة إلى الالتفاف على بعض الوقائع وإلى خلق وقائع جديدة. مما يتلخص في ثلاث فئات من القيم عملت الاستراتيجيات السياسية والاعلامية على التعامل معها: قيم يجب تأكيدها، قيم يجب إلغاؤها أو إضعافها، وقيم يجب خلقها. إنه الأساس العميق لمعنى التغيير الذي يريده الأمريكيون والذي بلوروه فيما سموه “الشرق الأوسط الجديد”، فطالما أنه لا مجال لتجنب التغيير إذن فالحل يكمن في أربع نقاط:
1.العمل على إحداث تغييرات في العقليات وفي أنماط الحياة بما يتناسب مع الاستراتيجية الأمريكية ومع العولمة والسوق.
2.على الصعيد السياسي: العمل على إحداث تغييرات تبدو في ظاهرها ديمقراطية ومجددة لكنها في الحقيقة مجرد أشكال فارغة تؤدي إلى إيصال مؤيدي الأمركة إلى السلطة، تاركة لوسائل الإعلام مهمة إقناع الجماهير.
3.تعزيز وضع اليد على الرأسمال المحلي المرتبط بالرأسمال المتعدد الجنسيات على مختلف قطاعات المجتمع، خاصة وسائل الإعلام.
4.أخيراً طرح مشاريع غير قابلة للتحقيق لكنها تفيد في كسب الوقت لتحقيق مشاريع أخرى أو للتغطية على بعض المخططات والنشاطات.
وهكذا يمر كل شيء في حين يكون الناس مشغولين بالجدل الذي تعززه وسائل الاعلام أو مستسلمون للاسترخاء الذي تنشره. غير ان واقع المعادلات التي تقوم في الدول العربية كافة، خاصة تلك التي عاشت ما يسمى بالربيع العربي، يدلل على ان الهيدرا التي تحدث عنها جورج قرم لم تمت، ولا يمكن ان تموت، في واقع لن تشكل ظاهرة حمدين صباحي تجليه الوحيد.