في الحواريات التلفزيونية

صحيفة العرب اليوم، 10-07-2012

لم يسبق ان شهدت البرامج الحوارية على الفضائيات العربية هذه الدرجة من التناقض في المستوى، واذ اقول المستوى فلا اقصد اختلاف الراي لان ذلك في طبيعة الاشياء، وبلوغه مستوى من الحدة هو امر طبيعي في واقع الانقسام الحاد الذي يبلغ حد الدم في العالم العربي، بل اقصد ما هو غير طبيعي ابدا من وصول المواجهة الحوارية الى الضرب والرشق بالماء والهجوم واخيرا الاحذية والسلاح. اك في حين نجد الفضائيات المصرية تقدم وجها اخر للحوار الذي يحافظ على تهذيبه واصوله، حتى في حال اختلاف الاراء جذريا. ولا نعتقد ان هذه المحافظة تنبع من طبيعة الشعب المصري المهذبة، بل وذاك هو الاهم، من امرين : تراث التقاليد السياسية العريقة، وطبيعة الامور المطروحة التي تعبر بعمق عن رؤى سياسية حقيقية، تتناقض ولكنها لا تقتصر على اتهام وشتم الراي المقابل. فيما يعكس امرا بالغ الخطورة وهو ان انقسام المصريين هو انقسام سياسي حقيقي، بينما تخفي الانقسامات العربية الاخرى احقادا طائفية، مذهبية، اتنية، واقليمية، تنفجر عبر ما يدعي انه حوار.

وتذكرنا ” الانفجارات الحوارية ” الحديثة بحلقتين على الجزيرة وابو ظبي بعد احتلال العراق : الاولى ضمن برنامج مواجهة الذي كان يقدمه جاسم العزاوي   في حلقة بتاريخ 29 نيسان 2003 بين وميض نظمي استاذ العلوم السياسية في بغداد وعضو المؤتمر القومي العربي، وانتفاض قنبر الناطق الرسمي باسم المجلس الانتقالي العراقي الذي يرأسه أحمد الشلبي. فرغم أن نظمي كان معارضا لصدام حسين إلا أنه كقومي يرفض الإحتلال الأمريكي ويدين المتعاونين، فيصفهم بانهم ”الذين جاؤوا على ظهر الدبابات الأميركية والهيلوكبتر العسكرية”.  وعندها  لم يتورع قنبر عن شتمه ومن ثم الإعتداء عليه بالضرب. وراء هذا العنف، كانت  تكمن حساسيات متشابكة: سنية شيعية، عربية ايرانية، قومية دينية…الخ. ولم تثمر مطالبة المحطة لقنبر بتقديم اعتذار رسمي ومكتوب للمعتدى عليه وللمحطة نفسها كون ذلك يتناقض مع سياستها المعلنة.

المثال الثاني يحمل أيضا أكثر من دلالة، ذاك أن أحد المشاركَين في الحوار كان قد شارك قبل فترة وجيزة ببرنامج الإتجاه المعاكس حول الموضوع نفسه: الأكراد. على الجزيرة كان شيراز اليزيدي في مواجهة سليم مطر الفلسطيني، وعلى أبو ظبي كان اليزيدي في مواجهة محمد بهجت عزت، تركماني. دار النقاش حول مستقبل العراق خاصة مدينة كركوك، عزت كان هادئا يدافع عن وحدة العراق، يرفض الكونفدرالية، يطالب بانتخابات حرة تضع القرار في يد الشعب، يؤكد على أن ثروات العراق هي ملك لكل العراقيين ويجب تقاسمها بشكل عادل. أما اليزيدي فيطالب باستقلال كردستان، ضم مدينة كركوك اليها، اضافة إلى مدينة ديالا ونصف الموصل. وفي حين حافظ الأول على هدوئه راح الثاني يصرخ بصوت عال، تاركا كرسيه مانعا المذيع من الكلام، بحيث تحولت الحلقة إلى مشاجرة صاخبة عندما ذكّره المذيع جاسم العزّاوي بأنه هو أيضا ابن كركوك يعرف كل أحيائها ومكوناتها الإثنية.

لا نقول بانه يمكن للمحاور بان يذهب الى الحلقة وقد وضع قناعاته واراءه في الثلاجة، ولكنه يستطيع ان يذهب وقد وضع حسه الانتقامي في الثلاجة، وذلك خدمة لرؤيته التي جاء للدفاع عنها، لان الغاية التي يجب ان يستهدفها الحوار هي مقارعة الاراء لتبيان الافضل منها، ولا باس ان تكون هذه المقارعة صلبة وحتى حادة في المضمون، على ان تبقى منطقية في الطرح والاسلوب. لان الغاية ليست ان يصفق لك من يحملون الحساسيات ذاتها التي تحمل، بل ان يقتنع بما تدافع عنه جزء كبير من الشريحة الثالثة التي لا هي انت ولا هي خصمك. واذا استطعت ان تصل الى اجتذاب جزء ولو صغير من شريحة خصمك فهناك يكون الانتصار. هكذا هي قواعد اللعبة التي اسمح لنفسي بان اسوقها كمشاهدة اولا، كباحثة امضت عشر سنين في العمل على موضوع الفضائيات العربية، وكمشاركة سجلت حتى الان مئتين وسبعين حلقة حوارية، على مختلف الفضائيات العربية والاجنبية،  لم اكن في بدايتها ادرك كل القواعد الذهبية ولكنني تعلمتها بالتدريج، وربما بفضل التحليل البحثي.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون