كان هو هو اكثر من اي شيء اخر. روجيه غارودي الفيلسوف الفرنسي الذي غادرنا قبل خطوتين من عمر قرن. قرن قضاه باحثا عن جواب لمسالة الانسان. جواب لم يقبل به يوما جاهزا، وانما اراده باستمرارا مفجرا لكم اكبر من الاسئلة. الاب الملحد، الام الكاثوليكية، لا يقنعاه فيعتنق البروتستانتية، يعبرها الى الماركسية، ليعود الى الكثلكة، وينتهي الى الاسلام. لكنه يصر في كل مراحله انه يقرا كل شيء وفق منهج ماركسي – كما كان يقول لي دائما.
مرتان اثارت ترجمته الى العربية زوبعة من نار، الاولى عندما ترجم الحزب الشيوعي اللبناني كتابه ” النظرية المادية في المعرفة ” والتي جعلت منه فيلسوف الحزب في فرنسا. والثانية عندما ترجمت له انا ” الاساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية ” ونشرتها على حلقات صحفية في ست صحف في ست دول عربية ( الخليج من بينها) ، ومن ثم في كتاب، قبل ان ارافقه في جولات جعلت بيننا صداقة فكرية، بل واسرية عميقة.
غير ان ما بين الكتابين عالم من عواصف: ففيلسوف الماركسية ياخذ في انتقادها بدءا من عام 1968 ويصدر كتابه ” واقعية بلا ضفاف ” حيث يتمرد على الواقعية الاشتراكية ويخرجها من دائرة البطل الايجابي والتفاؤل الثوري، ليوسعها بحيث تقبل كل الابتكارات الفنية وتتطابق مع كل تجديد. يتصاعد نقده للحزب الشيوعي ولدوغماتية الاتحاد السوفييتي، وهو يمثل الحزب في مجلس الشيوخ الفرنسي عن دائرة باريس، فتقرر اللجنة المركزية طرده عام 1970.
” عندما نفذ جميع الرفاق مقاطعتي فكرت بالانتحار.
ولماذا لم تفعل؟
ذهبت الى ضفة السين، وقفت طويلا لكنني تراجعت لانني رايت الماء وسخا جدا. ”
هل كان ذلك ما قاده باتجاه الكثلكة؟ ام انه حاول ان يجد فيها البعد الانساني والعدالة الاجتماعية وروح الحق، مما كان يعتبره فوق كل القيم؟ لم يطل به الامر، حتى وجد ان كثلكة روما لا تلبي روحه فكتب في نقدها كما لم يكتب جرير في الفرزدق، وادار مجذافه باتجاه الاسلام، فاذا بالاقتراب من الدين، تقريب من الحضارة، خاصة وهو يكرس عمله لحوار الحضارات، ومن ثم اقتراب من القضايا، وعلى راسها القضية الفلسطينية، حيث يفتتح معركته بالبيان الشهير الذي وقع مع الاب ميشال لولون ضد اجتياح لبنان عام 1982، ثم ببيان اخر مع الابي بيار،وصولا الى كتاب ” قضية اسرائيل: واخيرا الى تفكيك اساطير الادعاءات الصهيونية، من الشعب المختار الى الارض الموعودة الى المحرقة، وقانون فابيوس غايسو في “الاساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية”.
منذها والرجل يواجه التشويه والتجريح والمحاكم في الغرب، ويتلقى اعجاب العرب الذين لم يعرفوا كيف يفيدوا من صوته، الا على الساحات العربية ( لاقناع المقتنع ) وحسب.
كذلك غيب ضجيج السياسي، تراثه الفكري والابداعي الذي بلغ 82 كتابا، لم تكد تترك مجالا من مجالات الفكر والفن الا وحفرت عمقه.
هل صحيح ان اعمالك الهامة في النفد الفني تعود الى قصة غرام براقصة الباليه الروسية التي كان يعشقها شارل ديغول؟
– الم تقولي اعمال مهمة، هذا هو المهم.
غارودي هو واحد من اثنين وعشرين كاتبا وشاعرا ترجمتهم بين العربية والفرنسية. غير ان تجربتي معه لا تشبه الا مثيلتها مع الوزير جان بيير شفينمان او مع الفيلسوف جوستيان غاردير، حيث تحولت الى جسر صداقة فكرية نمت واستمرت،. جسر لا تاتي قوته من ثنائية لغة، بل من عمق تجربة لا تقصر الترجمة على نقل من لغة الى اخرى بل تجعل منها مغامرة تقمص الاخر ونسقه الفكري وروح نصه، وقضيته المضمونية، لاعادة صياغتها بالعربية او العكس.
شروط لا بد من توفر الاولين منها في اي عمل غير ان الاشتراك في القضية يجعل التجربة عملا نضاليا مختلفا. فقد كان شفينمان ضمير الغرب الرسمي النادر وربما الوحيد في العدوان على العراق – علينا عام 1991، في كتابه فكرة معينة عن الجمهورية والذي اعطيته بالعربية عنوان ” انا وحرب الخليج “. وكان جوستيان غاردير مؤرخ الفلسفة النروجي الذي خضت معه جدلا خلال ترجمة كتابه ” عالم صوفي “، حول اغفاله للفلسفة العربية الاسلامية، جدل نجح في دفعه الى العمل بجد على التعرف على منجزها، مما قاده الى معرفة العالم العربي ومن ثم قضاياه، واذا به يصدر بيانا يدين اسرائيل في حرب 2006، مما اثار اشكالا كبيرا بينه وبين اللوبيهات اليهودية في العالم السكندينافي، وظل مصرا على موقفه رغم كل المضايقات والمقاطعات.