كما الانسان يندثر الكيان المادي لحضارة ما وتبقى روحها في عوالم يفترضها كل بحسب رؤاه للما بعد وللبقاء… لكنها تبقى وتتجدد في الامتداد الحياتي لسلالات ثقافية لا علاقة لها لا بالعرق ولا بالدم.
هي الأندلس كيان ضج بحياة استثنائية في تاريخ الحيوات الحضارية، وانتهت ماديا الى معالم على الأرض الاسبانية لا يمكن لها ان تركب قوارب النهر الكبير الى المغرب العربي، في عودة لعبد الرحمن الداخل وطارق بن زياد. لكنها انتهت حضاريا وثقافيا الى توالد اشعاعي غمر الارض ونفخ في الغرب الميت روح حياة تفاعلت وتنامت حقبة جديدة في سلسلة احقاب الحضارة الانسانية.
هي الاندلس حية هنا، على مسرح قصر الثقافة في الجزائر العاصمة، اداءا موسيقيا جميلا لشباب في عمر الزهور يتابعون عملية احياء بدأها جيل سبقهم. يحملونك في لحظة الى غرناطة. واد تصعد بك شطحات ممدودة الى اجواء الحان كنسية معروفة، تعود الى البرنامج لتجد ان اسم هده المقاطع: عراق. وذاك ما لم اكن لافهمه لولا فيلم وثائقي لربى عطية حول اصول الالحان الكنسية، كشف بعد بحث علمي استغرق سنة كاملة ان مصدر كل الالحان الكنسية بابلي، لان ترتيل الصلوات بدا في الرها ونصيبين.
ذاك العراق. الم يقل كرومر ان كل شيء بدا في سومر؟ وها هو انتقل خارج اطاره الجغرافي الى تلك التجربة الانسانية الكبيرة التي اسمها الاندلس. ليتأثر في ذهابه وايابه بتنويعات هدا العالم العربي الممتد من مشرقه إلى مغربه، بكل ثقافاته التي سبقت الحضارة العربية الإسلامية وتجددت فيها لتنسج هذا الغنى الفريد من خيوط ألفية عمقا واتساعا.
هو هذا النسيج الإبداعي يربط الأندلس بالجزائر ببغداد، فيما تقصر عنه محدودية وتخلف من يريد الإقصاء او الانعزال بدعوى العرق او الدين.
قبل يومين كنا هنا على المدرج ذاته. كنا نهزج ونصفق مع عرض آخر: بداهة الجمال الخام. فولكلور الداخل والصحراء.. صوت فردي جبار لشاب يعيدني الى وديع الصافي ويجعل زميلي المصري يقارن بفرق الجبل: مواويل وطلعات تقد من صخر وتتدفق كشلال من أعلاه وتنسحب طويلة كامتداد الفيافي والصحراء. ورقصات تجسد بالحركة وحدها قصصا وحكايا كم سمعناها عن فتلى يعشق وفتاة تتدلل وتتمنع، تستدرجه ليقوم بكل ما يجذبها، الى ان يلتقيا اخيرا، هي بغنجها وخفرها وهو برجولته المعتدة. بعدها لوحات يتحول الراقص فيها بإتقان مذهل الى عصفور، ثم آخر من عصافير الصحراء الجميلة… لا حاجة هنا للسينوغرافيا، فقد رسمت عبر قرون.. قبل ان يفتتن بعض الفنانين والمخرجين بما اسماه الأوروبيون المسرح الفيزيائي او مسرح الجسد، ذاك الدي يعتمد على الحركة والايحاء الجسديين. لماذا لا يعود المعجبون بهذا النوع الى هده الجذور ليستوحوها ويطوروها. انها روح الامة. انها هنا روح الجزائر بعيدا عن نقاشات ونظريات العلوم السياسية التي تهنا فيها ثلاثة ايام.