في العام 1992 عبر الكثيرون من الاوروبيين المعارضين لحرب الخليج ضد العراق، عن خشيتهم، من ان يؤدي سحق الخط القومي في العالم العربي الى الاخلال بالتوازن عبر نمو الاصوليات الدينية المتطرفة ( السنية والشيعية) في العالمين العربي والاسلامي.
لم يكن ذلك الخلاف الغربي الا تجليا جديدا لرؤيتين قديمتين جديدتين: احداهما ترى ان سحق أي توجه قومي او تحديثي في العالم العربي هو امر ضروري لحماية المصالح الاميركية والاوروبية ولبقاء وهيمنة اسرائيل. وان دفع العرب نحو الاصولية المتطرفة يؤدي الى صراعات مدمرة للمجتمع والدولة تصب في خط هذه المصالح. ويرى، جان بيير شفينمان في كتابه ” انا وحرب الخليج ” ان هذه الرؤية اقتضت سحق اية محاولة للعبور الى العصر الصناعي، منذ محمد علي الى جمال عبد الناصر الى صدام حسين. كما تقتضي القضاء على أي حلم قومي توحيدي سيادي.
اما الرؤية الثانية فترى ان تحالفا اوروبيا متوسطيا، او عربيا، من شانه ان يدعم الاستقلالية الاوروبية، ويؤمن لها التوازن مع الحليف الاميركي. وكان من ابرز تجلياتها ما اسمي بالسياسة العربية لشارل ديغول. الا ان المفكرين اللاحقين اضافوا اليها استشراف خطر جديد، قال عنه شفينمان بوضوح: ” فوضى ستعم العالم العربي، ولن تتاخر ان تعبر شاطىء المتوسط لتهز التوازن الهش للمجتمعات الاوروبية نفسها. ”
تخوفات تجاوزت البناء على تامين المصالح المادية والاستعمارية الى الحفاظ على الامن الاجتماعي، وكان من الواضح ان العديد من السياسيين والمفكرين الذين تنبهوا لها اقصوا عن الساحة السياسية بضغط اللوبي المالي واللوبي اليهودي اللذين يتماهيان في الغالب، واللذين تعاظم نفوذهما مع مرحلة العولمة.
لكن الغريب ان احدا لم يجرؤ على ان ينبه الى ان هذا الموج العابر للمتوسط، سيبلغ الكيان الاسرائيلي الذي اريد ان توظف هذه التطورات التدميرية لخدمته. وها نحن الان نجد الجدل العام ينطلق في الكيان كما في الغرب حول نمو التيارات المتطرفة، وعلى راسها الحريديم الذين باتوا يفرضون فصل النساء عن الرجال في الحافلات العامة، بل وفي الطرقات، وطالبوا باستبعاد النساء من العملية التعليمية الدينية كليا، ثم تراجعوا تحت الضغط الى القبول بفتح مؤسسات خاصة تكتفي إلى اليوم بتعليم الفتيات الحريديات ما يجب عليهن عمله وما الذي عليهن تجنبه، وحسب، لانهم يعتبرون ان النساء عاجزات عن الفهم. كما قال ميمونيدس صاحب كتاب ( قوانين تعليم التوراة ): ” إن المرأة التي تدرس التوراة تحصل على ثواب أقل مما يحصل عليه الرجل.. والحكماء يأمرون الآباء أن لا يعلموا بناتهم التوراة، لأن معظم النساء ليست لديهن النية في تعلم أي شيء، وسوف يقمن بسبب سوء فهمهن بتحويل أقوال التوراة إلى هراء!!”
في ندوة على اذاعة البي بي سي، حذر محللون اسرائيليون من ان تنامي هذه التيارات، ستؤدي الى امرين خطيرين: صدام لا يعلم احد مدى تطوره داخل اسرائيل، وضرب علاقة الدولة العبرية بالغرب الذي سيتخوف من انعكاس هذا التضارب على يهوده. لكن احدا من المشاركين لم يقل ان هذا التخوف يتناقض مع القبول بمطلب يهودية الدولة، كما ان التخوف من عبور الاصوليات الاخرى المتطرفة الى شواطئه يتناقض مع سياساته في العالمين العربي والاسلامي.
واذا كان الغرب الاوروبي يحفر قبر منجزات امنه الاجتماعي بيده فلا رحمة لله عليه