أكثر من دولة.. أقل من دول

الربيع العربي، 02-01-2012

في بداية التسعينيات كان وزير الدفاع الفرنسي، أول من استعمل مصطلح اللبننة لاستشراف الوضع العراقي المقبل. وفي نهاية الألفية الثالثة رحنا نسمع مصطلح العرقنة للاستشراف السوداوي للوضع السوري، غير أن الأخضر الابراهيمي قفز فوق المصطلحين الى الصوملة مرة واحدة. فهل سنسمع مصطلح السورنة للتبشير بمأساة جديدة؟

انتهت حرب لبنان ولم تنته، وتحول البلد من بلد الى كانتونات لا يشكل أي منها دولة ولا تشكل كلها دولة، والنتيجة شلل كامل للقرار وشلل للانتاج وشلل وتفسخ للنسيج الاجتماعي، ووأد للحالة النهضوية الثقافية والسياسية التعددية في اطار الحريات العامة، الحالة التي بدت مضيئة وراحت تطل برأسها على العالم العربي من لبنان الستينيات وأوائل السبعينيات. انتهى احتلال العراق ولم ينته، وتحول البلد الى محاصصات وكانتونات ونهاية المشروع النهضوي الكبير الذي كان العراق يحمل حلمه ويحقق خطوات هائلة على طريقه، خطوات كانت تنتظر تطورا لا بد منه لاستكمال المشهد بالحريات السياسية والمدنية لقيادة العالم العربي كله باتجاه استعادة العزة.

لم يعد العراق دولة بالمعنى الحقيقي، ولم يتحول الى دول تبني نفسها بطريقة أو بأخرى، بل قضي عليه أن يجلس على كرسي بعدة قوائم مهزوزة، مهددا بالسقوط في أية لحظة والعودة الى جحيم التقاتل والاستنزاف. والآن يقف هذا التهديد في مواجهة سورية، سورية المشروع الانتاجي الزراعي والصناعي، سورية المشروع القومي الذي راوغ ولعب ونجح في عدم الرضوخ للاستسلام أمام اسرائيل، وتابع بعناد دعمه للمقاومة اللبنانية حتى وصلت الى دحر الجيش الذي لا يقهر مرتين، كما حافظ بعناد على احتضان المنظمات الفلسطينية – التي عاد بعضها وطعنه في الظهر.

سورية اليوم مهددة بالتحول الى كانتونات لأمراء حرب معظمهم غير سوريين ولا هَمَّ لهم الا تدمير الكفار من علمانيين وعلويين ومسيحيين ودروز كما علموهم وغسلوا أدمغتهم. لن يسمح الذين يقفون وراء التفسيخ باقامة دول جديدة، فهذه مهما كانت صغيرة، قد تبني نوعا من الاستقرار، وهذا مرفوض. وسيبذلون كل الأموال والجهود لتفتيت الدولة الكبيرة لأنها أيضا مصدر استقرار وهذا مرفوض. وكي يتحقق الهدف لا بد من تحقيق ثلاثة شروط : تدمير الاقتصاد، تدمير الجيش، وتدمير النسيج الاجتماعي.

شروط ثلاثة تحققت في العراق وها هي ثورة الحرية تصادر لصالح مجموعات تعمل على تحقيقها في سورية: الأول عبر أعمال ارهابية، لا علاقة لها بالثورة ولا باصلاح النظام، تعمدت التدمير المنهجي لمؤسسات الدولة واقتصادها الذي بناه السوريون بعرق الجبين ولسنين طوال. من تدمير مصافي وخطوط النفط والغاز ومحطات توليد الطاقة وشبكات الكهرباء والمياه والجسور الى نهب المعامل وصوامع القمح والبذور في ريف حلب ورأس العين. تدمير لم يوفر المعاهد والمدارس والعيادات الصحية والمستشفيات ” وقد ارسلت لي مديرة أحد مصانع حلب قائمة بالمصانع التي تم تدميرها ومقابلها قائمة بالمصانع التركية التي كانت تخوض معها منافسة قوية على ساحات محددة، قبل الأحداث”. هذا عدا عن الحصار الاقتصادي والمالي واستنزاف مقدرات البلاد.

أما الهدف الثاني، أي تدمير الجيش، فقد كان هدفا معلنا منذ اليوم الأول وقبل أن يباشر الجيش أي تدخل في الأحداث، واذكر أن احدى المحطات الفضائية “الثورجية فجأة” اتصلت بي في باريس في الأيام الأولى للأحداث، وعندما قلت لها إننا نتمنى أن يتمكن الجيش من ممارسة الدور الذي مارسه الجيش التونسي والمصري ازاء الثوار، ثار كأنني شتمته وراح يصيح: الجيش العلوي، جيش النظام، جيش الأسد؟؟؟ وعندما عدت لأقول له، بل الجيش العربي السوري الذي خاض معارك اكتوبر، مثله مثل الجيش المصري الذي لا نسميه مثلا جيش النظام، قطع الاتصال… كان واضحا أن الجيش مستهدف لذاته بصرف النظر عن الرئيس الأسد والنظام. مستهدف لعقيدته ودوره وخطورته على اسرائيل. والا فلماذا تم اغتيال أحد عشر طيارا سوريا عندما كانوا ذاهبين مع أسرهم في اجازة “قبل استخدام الطيران”؟ ولماذا تم اغتيال اللواء الدكتور نبيل زغيب، احدى ابرز العقول الأساسية في برنامج الصواريخ السوري، مع عائلته في دمشق؟ ” وقد رشحت أنباء عن تورط اصوليين فلسطينيين في اغتياله”؟ ولماذا استهدف رجال شبكة الدفاع الجوي السورية، الذين وظيفتهم تقنية بحت ولا ناقة ولا جمل لهم في الصراع الدائر فاغتيل واعدم المئات منهم بشكل ممنهج؟

أما النسيج الاجتماعي فنزلت عليه السكاكين كالمطرقة، من القتل على الهوية الى تدمير المعابد العلوية ونعتها بالكفر، كما حصل في إدلب، الى تحليل الذبح المذهبي في قرية عقرب قرب حمص، الى وصف العلويين والدروز بالكفرة والمرتدين، الى ارسال السيارات المفخخة الى أحياء الدروز والمسيحيين، من دون أن يعني ذلك الرحمة للسنة ممن لم ينساقوا في التقاتل المذهبي وبيع الوطن وتفتيته.

فهل سينجح هؤلاء في جعل سورية أكثر من دولة وأقل من دول؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون