ورقة مقدمة لمؤتمر الميديا والاعلام، الجامعة الاهلية
د. حياة الحويك عطية
بحثاً عن ثقافة ديموقراطية في خطاب الفضائيات الإخبارية العربية.
الفرد، الجماعة، المجتمع. ال” أنا”، ال” النحن” وما بينهما من جماعات؟
اذا كانت علوم الإتصال والإعلام ” تشمل دراسات علم النفس، علم اجتماع الإتصالات والإقتصاد السياسي للميديا وللصناعات الثقافية“[1]، فذاك لأن تأثير وسائل الإتصالات ينبع من كل هذه المجالات ويؤثر في تطورها. حيث ” تشكل وسائل الاتصال نظام باطن خاص يتفاعل مع كل جزء اجتماعي في عملية تفاعلية بين القطبين المزدوجين“[2]
في حالة الفضائيات العربية الاخبارية، تبرهن الوقائع والتحليلات أنها ولدت من تقاطع النظام العالمي الجديد، العولمة، مع الحاجة الى” تدعيم العادات والقيم التي تعطي مشروعية للنظام السياسي القائم“[3]
غير أن ثمة سؤال يُطرح حول التقاطع والافتراق بين هذين الهدفين. فإذا كانت هذه الوسائل ” أداة ضغط سياسي تمارسه الجماعات (Community) المهيمنة على مجتمع ما… وكانت بالتالي أنماط تطبيق لقانون السوق في مجال الأفكار“[4]، فما هي المفاهيم والقيم التي تسيطر على خطابها وتتحدد بالعلاقة مع بقية الجسم الاجتماعي؟ وإذا كان رهان التغيير ينطلق من تشكيل المواطن كعنصر أول وعميق في عملية التغيير، من رؤيته لمنظومة القيم ولهويته، فإن الفرد يعيش متأثرا بالسياق الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي والديني، ضمن عملية تبادلية تفاعلية مُعقدة. السياق يؤثر على الفرد، المجتمع ووسائل الإعلام، ويتأثر بهم.
من هنا السؤال حول التأثير الذي يحدثه خطاب هذه الفضائيات، بطريقة مقصودة أو غير مقصودة على تشكل الفرد، ال” أنا” وعلى تشكل المجتمع – الدولة، ال” نحن“. كذلك حول التأثير الذي يمارسه الواقع ومسار الأحداث على كليهما. خاصة وأننا نناقش الوضع في مجتمعات تعاني من عدم تبلور كلي المفهومين في ظل غياب الديموقراطية الاجتماعية والسياسية والافتقار الفاضح للسيادة. ومن غياب الفضاء العام بسبب منع وقمع الجدل العام ((public debat على الساحة العامة. فهل أن ظاهرة البرامج الحوارية، خاصة برامج “”الجدال ” (debat) التي تتدفق على الشاشات، ستؤدي إلى تحرير الجدل العام وإلى تشكيل فضاء عام (public space)؟
من جهة اخرى، أي خطاب تقدمه هذه المحطات في برامج الجدال الحوارية فيما يخص بلورة مفهوم الفرد- الحر، المجتمع ومن ثم الدولة، وأية علاقة تبنى عبر هذا الخطاب بين الفرد، الجماعات والمجتمع؟ علما بان المقصود بالجماعات هنا هو التكتلات التجزيئية التفتتيّة، من إتنية وعرقية ودينية ومذهبية، تتحول إلى ال” نحن” يتقدم الانتماء اليها على الانتماء إلى ال” نحن” الحقيقية، المجتمع – الدولة.
أي توازن أو عدم توازن تفرضه شبكة السلطات بين المصالح والمساواة، فيما يترك مجالا لتشكل الشخصية الفردية العاقلة والحرة لتشكل المجتمع- الدولة ؟
أي فرصة لهذا التشكل تتوفر في ظل غياب السيادة الوطنية، وإحساس المواطن بالقلق وغياب الدولة التي تحميه فيما يدفعه إلى البحث عن الحماية، في الانكفاء داخل جماعات فرعية أوالإنفلاش نحو ارتباطات خارجية؟
وأخيرا أي حظ يتركه منطق صراع الحضارات على الصعيد الدولي ومنطق صراع المذاهب والاثنيات على المستوى الداخلي، لتشكل رؤية واضحة، رؤية مواطنة، ديموقراطية، فيما يخص القضايا المطروحة؟
أية ” أنا“، أية ” نحن” في مقابل هذا العدد الكبير من الجماعات التي تطرح كل منها نفسها كنحن ذات عصبية شديدة لأن ” اللاعقلاني يشد اللحمة” بحسب ريجيس دوبريه؟ وباتالي ك”هويات قاتلة”[5] تفتت المجتمع والدولة؟
أسئلة كثيرة اختارت هذه الورقة أن تختار منها الاول اي برامج الجدال الحوارية لأنها الظاهرة التي ميزت ظاهرة الفضائيات العربية نفسها واعتبرها الكثيرون تطورا ديمقراطيا غير مسبوق. ومن هنا خصوصية السؤال : أية ثقافة ديموقراطية تحملها وتعززها هذه البرامج؟ خاصة في واقع التفاوت بين حضور الحوار على الشاشة وغيابه عن الساحة العامة.فهل هل سيكون من شان برامج الحوار اطلاق الجدل العام وصولا إلى تشكيل فضاء عام؟
تحرير برامج الجدل ( debat) هل يساهم في تشكيل الفضاء العام( public space) مع غيابه عن الساحة العامة؟
أولا: المسافة بين الشاشة والساحة العامة: تعبيرات مختلفة عن الحرية ذات تفسيرات متناقضة
- في سياق هذا التباعد: تدمير التابوهات، كيف ولبناء أي بديل ؟
في نهاية المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير داخلية قطر في نهاية الانتخابات الاولى في البلاد، في 8 اذار 1999، طرح أحد الصحفيين سؤالا حول الخطوة التالية في عملية التطور الديموقراطي في البلاد وهل ستكون السماح بتشكيل الأحزاب السياسية أو بإطلاق حوار فكري يؤدي إلى تشكيلها؟ فأجابه الوزير: ” لن تكون هناك أحزاب في قطر، نحن لدينا وحدة وطنية“[6]. كان هذا بعد أربع سنوات من تأسيس الجزيرة، سنوات بنت خلالها المحطة شعبيتها الإستثنائية على برامج الجدال الحوارية.
بعد بضع سنوات، كان الصحفي الكويتي سامي النصف يدافع، في حلقة من الأتجاه المعاكس، عن سياسة الهجرة في الخليج العربي التي تفضّل الآسيويين على العرب معتمدا حجة أن العامل العربي مُسيّس ويخلق لنا المشاكل.[7]
هذين المثالين يقودان إلى ثلاث ملاحظات:
– التناقض بين حضور الجدل العام على الشاشات وغيابه أو التضييق عليه في الساحة العامة، وبالنسبة للساحة العربية عموما هو غائب عن ساحات، مقموع على ساحات أخرى، ويظل غائبا عندما تنظم بعض الدول انتخابات عامة بلدية أو حتى تشريعية توهم بأن ثمة تطورا ديموقراطيا يحصل، خاصة منذ نهاية الثمانينات. وذاك ما يحلله مدير برنامج الحاكمية العالمية في مؤسسة البنك الدولي بقوله: “إن الوقائع تجعلنا نفكر بأن الإنتخابات، التي تترافق مع درجة محددة من حرية الصحافة بشكل عام، لا تضمن بذاتها تمكن وسائل الإعلام من التطور وحرية الصحافة“[8]. غير أن هذا التحفظ يطال، بنظرنا، ما هو أبعد من وسائل الإعلام ليطال تطور المجتمع ككل.
– الفارق الكبير بين دول الخليج وبقية الوطن العربي، خاصة دول المشرق العربي فيما يخص الحضور التقليدي للمدارس والتيّارات الفكرية، للأحزاب السياسية ولتقاليد الجدل الفكري العام. حيث نجدها راسخة في مصر ودول سوريا الطبيعية، مقابل غيابها -إلا نادراً- في دول الخليج. أما القاسم المشترك بين كل الدول العربية فهو الرقابة والقمع الفكريين اللذان تمارسهما السلطة الحاكمة ضد الاحزاب المعارضة ومنتسبيها. حال لم يتغير الا شكليا مع مجيء العولمة ودعاوى التغيير.
كل هذا جعل من إطلاق الحوار على شاشات الفضائيات، خاصة الجزيرة، ظاهرة تعمل على ” تدمير التابوهات، خاصة المتعلق منها بعملية انتقال السلطة وسياسلت الدولة“[9]. هكذا طرحت بعض البرامج، للجدل الحاد أو الهادىء، مواضيع طالما اعتبرت من المحرّمات. يقول المذيع فيصل القاسم: ” لقد تعودنا أن نخبئ مشاكلنا تحت السجادة بدلا من أن نناقشها، فلنتركها تخرج على الشاشات بدلا من تركها تتراكم وتنفجر“[10]. هذا ما يؤكده ديفيد هيرست اذ يكتب: ” فعليا تمكن الناطقون باسم عدد كبير من جماعات المعارضة من إيجاد منبر بإمكانه أن يصل إلى كل هذه المنطقة من العالم“[11]، منبر يمثل “مناقشة الأحداث… وعلى خلاف المحطات الاخرى تبث الجزيرة هذا الجدل مباشرة وبدون المرور بالمصفاة التي تنتزع منه القضايا المحرجة“[12].
غير أن هذا التحليل المبتهج لم يكن أبداً موضع إجماع، خاصة فيما يتعلق بفاعليّة هذا النوع من النقاشات في تحديد طبيعة التغيير. ذاك أن اقتصار هذا الجدل الحرّ على شاشة التلفزيون وغيابه عن الساحة العامة يجعله غير قادر على إحداث التغيير الحقيقي الذي يجب أن يبدأ بالفرد وبالأفكار، بتعزيز العقلية النقدية والمحاكمة الحرة الهادئة. في حين أنّ البرامج الأكثر شعبية هي تلك التي تتسم بالطابع الإستفزازي وذاك ما شكل موضوع انتقادات من قبل الباحثين والصحفيين وحتى بعض القائمين على المحطات: ” لا يخرج المشاهد من ذلك إلا مبلبل الفكر، لا يستنتج شيئا ولا يتعلم شيئا” – يقول المنتقدون. مما يحيل إلى السؤال: هل أن برامج الجدال الحوارية الأخرى التي تحرص على النقاش الهادئ ولو في أقصى حالات الإختلاف، قادرة على أن تقدّم للمشاهد وللمشاركين أنفسهم، فرصة أفضل؟
يرى الصحفي الأردني رامي خوري رئيس التحرير السابق لجريدة جوردان تايمز أن: ” وسائل الإعلام العربية الحديثة، الفضائيات هي من دعائم النظام الإقتصادي والسياسي القائم في بلداننا ولا تشكل تحديا له. الواقع أن من شأن هذه الوسائل الإعلامية أن تمثل تدابير متطورة تتخذها المؤسسة الحاكمة لإرضاء الغضب السياسي المشروع لدى شعوبها والخوف العاطفي الذي تشعر به هذه الشعوب كما أنه من شأنها أن تفتح مسارب تنفيس تتحرر فيها، بأمان، كل ليلة من هذه التوترات“[13].
بين وجهتي النظر هاتين نجد آراء مختلفة عبّرت عنها إحدى حلقات برنامج الأتجاه المعاكس، تناولت الأنتقادات الموجهة لقناة الجزيرة: المصري سليم عزّوز يهاجم الجزيرة قائلا: ” إنها تكرس صراع الديكة، وتحول النقاش إلى مشاجرة تستعمل فيها الشتائم والإتهامات التي لا تليق بوسيلة إعلام. المذيع ليس محايداً أو موضوعياً، والمشاركون عبر الهاتف يتم إختيارهم مسبقا“.[14] أمّا السعودي سليمان الشمري فيرد عليه: ” نعم نحن بحاجة أن نصرخ، إنّ كبت السنوات الماضية كلها يقتضي أن نصرخ، أن نتحدث بصوت عال. إلى متى يجب أن نبقى صامتين، منافقين، كاذبين؟ إلى متى يظل الإنسان الشريف والحر مبعدا؟ إنها الكارثة… نحن في المجتمع العربي نعيش القمع والرقابة، بل الرقابة الذاتية، لذلك نحن نتحمل برنامج صراخ لكننا لم نعد نتحمل حكوماتنا“[15]
يجسّد تعبير” الإنسان الحر المبعد” ظاهرة الإقصاء التي يعاني منها كل الذين لا يُمالِئون الأنظمةَ القائمة، كما يجسد طبيعة نظرة هؤلاء المثقفين إلى ” المقربين من”البلاط””، “غير المستبعدين”.
كذلك فإن الكلمات الثلاث ” نصرخ” + ” الكبت“+ ” بصوت عال” مربوطة بتعبير + “السنوات السابقة” تلخص الحالة النفسية والإجتماعية لمجموع = ” صحفيون – متدخلون ضيوف – جمهور”. وتطرح السؤال: هل يمكن لنقاش لا ينبع إلا من الحاجة إلى التنفيس ” فشّة الخلق” ولو كانت الأكثر مشروعية، أن يؤدي إلى عقلنة ضرورية للتغيير الديموقراطي؟ أليس من شأن هذه الحاجة العميقة لإطلاق المكبوتات، وحتى للإنتقام والمرارة أن تسهل التلاعب بالناس المكبوتين وزرع الأوهام خدمة لأهداف أخرى؟
ألا يلتقي قول الشمري ” لا تهمنا الأهداف“، مقابل الحصول على هذه الفرصة للتنفس والصراخ، مع رأي رامي خوري حول الحفاظ على الأمر الواقع وعلى تسهيل تحرير الإنفعالات بكل أمان عبر التحرر من التوترات كل مساء؟[16] ألا يشكل إعطاء هذه الفرصة، لهؤلاء الذين يعانون من الإقصاء من قبل محطة تعود لدولة كقطر، الإمارات أو العربية السعودية، عملية إستحواذ (appropriation) هذه الدول على قيمة حرية التعبير من قبل أنظمة لا تعترف بهذه الحرية على أراضيها ولشعوبها؟
أوليست إذا ظاهرة ” ايهام” ليبرالي لخدمة أنظمة غير ديموقراطية؟
من جهة أخرى ألا تشكل عملية التماهي التي يعيشها المشاهد مع هذا المشارك أو ذاك عملية تطهّر ( كاترسيس ) تستنفذ القوى المحركة للفعل، إذ تخلق إحساسا وهميا بالرضا عن الذات فيما يتعلق بالدور الواجب ممارسته في الجدل العام وفي الفعل العام الذي يجب أن يتبعه؟ خاصة وأن تلقّي التلفزيون يتم عادة بشكل فردي أو في إطار لا يتعدّى الأسرة والمنزل؟ ألا تصب طبيعة الشفوية التي يتميز بها التلفزيون وتتضاعف سرعتها مع صراع الديكة والمشاحنات، في سياق مناقض للتطور الهادف إلى التخلص من العقلية القبلية، الضروري لتشكيل المواطن الديموقراطي؟ ألن يؤدي التغيير المرتبط بالتكنولوجيا، بالتخصص أو عدم التخصص إلى التأثير على منظومة القيم التي يحملها المتلقي باتجاه إعادة تشكيل قبلية جديدة؟
غير أن هذه الإعتراضات لا تقلل من مشروعية الأسئلة الأربعة التالية:
الأول: هل كان من الممكن في سياق ” السنوات السابقة” أن نطلق حوارا ونقاشا حقيقيين دون المرور بهذه المرحلة خاصة في ظل الأنظمة السياسية نفسها؟
الثاني: هل كان من الممكن إطلاق التغيير دون كسر التابوهات، وهل يمكن تكسير التابوهات دون إحداث ضجيج؟ حتى ولو بلغ هذا الضجيج حدود الخروج على المالوف؟
الثالث: ألا تعزز برامج الجدال الحوارية بطبيعتها حس المحاججة، التحليل والعقل النقدي؟
الرابع: ألا تقدم برامج الجدال الحوارية، أي كان شكلها جديدا من المعارف التي تتراكم وتبنى لتؤدي إلى تشكيل سلطة مضادة؟ ألا يضطر كل مشارك إلى تدعيم وجهة نظره بالبراهين والوثائق والحجج، إذا بالمعارف؟ ألا يشكل الامتداد اللغوي للفضائيات مساهمة في خلق فضاء مشترك وتحركا مشتركا نحو فضاء عام؟
تجيب مقولة لفيصل القاسم على السؤالين الأول والثاني: “لقد أطلقت برنامج الإتجاه المعاكس لأنني كنت أعتبر أنه من الضروري إسماع صوت وجهة النظر المعارضة، المنشقة، المحكومة بالصمت منذ نصف قرن في العالم العربي“[17] .
السؤال الثالث تبرّره بشكل واضح دراسات التلقي التي أجريت على الجمهور العربي، كما تبرره التطورات الإجتماعية والسياسية في المنطقة. حيث يبدو المشاهدون مترددين بين حساسيّاتهم الإثنية، الطائفية، الحزبية، كما حساسّياتهم إزاء حكوماتهم وبين عقل نقدي حقيقي. ونلاجظ أن المشاهد ينظر إلى الشخص المشارك في النقاش على الشاشة كمحام يدافع عنه، كناطق باسمه، أكثر مما ينظر إليه كطرف نقاش عليه أن يحاكم أطروحاته، ( وهذا ما تؤكده التجربة الشخصية للباحث ). ذاك أن ثمة عوامل كثيرة تجعل من النقاش ساحة انتقام يسعى فيها كل طرف إلى كسر الآخر لا إلى إقناعه. عوامل تعود إلى الضغوط التي يعيشها الناس بين احتلالات خارجية وقمع داخلي، بين تمزقات سياسية وإثنية ودينية وبين الفقر والفساد، مما يخلق احساسا عميقا بانتهاك الكرامة “الفردية والوطنية”، إحساس يُولّد إحساساً آخر بالحاجة إلى الإنتقام ترتد إلى الآخر الذي أمامه وتترجم بالرغبة في الانتصار عليه. لأن الإقناع (Persuasion) عملية جدليّة فكريّة هادئة أمّا الكسر فعمليّة ثأريّة عاطفية.
غير أنه لا يمكن لكل هذه العوامل أن تمنع، على المدى البعيد، التأثيرات الأيجابية حتى ولو كانت تعيقها علي المدى القريب. هكذا نجد الشمري الذي تحدث عن الكبت وإطلاق المكبوتات الذي يدفعه إلى غض النظر إلى أهداف قطر أو دول أخرى تموّل الفضائيات، يعود ليقول: “ ما يهمني في برنامج ليس الأخطاء التي نأخذها عليه أو الخدمات التي يؤديها لقطر، ما يهمني هو: هل استمعت إلى وجهات نظر تفيدني، هل هي صادقة أم لا؟“[18]
يبقى السؤال الرابع وهنا يرتبط الجواب بموضوع الفائدة والصدق، والذي يحيل بدوره إلى سؤالين حول نوعية ومصداقية المشاركين في نقاشات برامج الجدال الحوارية وحول ما يمثلونه للجمهور. لا شك في أن المشاركين يمثلون وجهات نظر مختلفة، بل ومتناقضة، وأنهم يتناظرون بحدة للدفاع عنها، لكن معيار الفائدة يكمن في حقيقة الكفاءآت التي يتمتع بها هؤلاء الذين يقدَّمون على انهم خبراء وتخلع عليهم الالقاب لتعزيز اهمية البرنامج والقناة. كما يكمن في درجة الموضوعية والمصداقية التي يتمتعون بها. انهم في الغالب صحفيون، سياسيون، دبلوماسيون، ممثلو أحزاب أو تيارات سياسية و” خبراء؟؟” في مجالات مختلفة وهم يتدخلون ليضيئوا، ليهاجموا موضوعا، قضية، رأيا، حدثا أو ليدافعوا عنها. غير ان لهذا التدخل المفتوح، تأثيرات إيجابية وسلبية في آن. ذاك أن البعض يرى أن شعبنة المعرفة مرتبطة بدور الميديا في عملية التربية وبأن النقاشات والحوارات، أيّا تكن درجة عمقها، تعزّز محرّضات البحث عن المعارف، إما بدافع الفضول العلمي وإما بدافع التحدي اللذين يتولدان عند المشاهد. في حين يرى البعض الآخر أنّ الصرامة العلميّة تمنع تسطيح معارف معقدة في وقت محدود، وينبهون إلى خطورة تقديم تحليلات تبسيطية وخطورة اللجوء إلى المشارك المتوفر أكثر منه إلى الخبير الكفؤ. لكن المأخذ الأهم هو تحوير وتلفيق المعلومات وتمريرها لدى المتلقي باعتبارها صادرة عن خبير. والواقع أن الجمهور معرض لهذه المخاطر أكثر مما هو متقبّل لمحرِّضات المعرفة. هذا التحفظ ينطبق على كل البرامج الإخبارية وربما يكون أقل خطورة في برامج الجدال الحوارية إذا كان التوازن بين المشاركين مؤمّنا وهذا شرط نادراً ما احترمته البرامج، مثله مثل شرط الموضوعية.
حتى في حلقة الإتجاه المعاكس التي ذكرناها والتي تناقش موضوع برامج الجدال الحوارية وقناة الجزيرة بالذات، نجد أن الأفكار المسبقة والحساسيات الخفية هي التي توجه منطق كل من المتحاورين، ليشكل المسكوت عنه المحرك الحقيقي للمقول…يمكن بسهولة أن نفهم أن سليم عزوز يهاجم الجزيرة وبرامجها الحوارية لأنها موجّهة بشكل عام ضد النظام المصري ( السابق) الذي يؤيده. بالمقابل فإن سليم الشمّري يدافع عن المحطة لأنه معارض سعودي مضطهد. أمّا المتدخّلان الآخران عبر الهاتف فهما: مهاجر في أوروبا يساند الشمري، لأنه بدوره معارض هارب إلى المنفى “كفانا لم نعد نتحمّل” يقول، أما الثاني فتونسيّ يهاجم الجزيرة ويتهمها بأنها ضد تونس، لأنة مؤيد لنظام بن علي في حين أن المحطة تدعم المعارضة الإسلامية
المبالغة، الإثارة، التلفيق والتحوير، كلها نقائض للموضوعية، لكنها تظل وللأسف، من خصائص وسائل الإعلام. وفي فضاء يمكن، فيه، حصول أسوأ التعديات على الحريات، وتسوده أبشع إنتهاكات السيادة وعدم الاستقرار في كل المجالات، تصبح الإثارة وسيلة ناجحة لتوسيع شعبية وسيلة إعلامية خاصة إذا كانت تلفزيونية.
- هل تخدم الحوارات الهادئة بشكل أفضل العبور من الإتصال الخطي (Linear Connection) إلى إعادة التصور (configuration)؟
لا تتشابه برامج الجدال الحوارية من حيث نمطها الإستفزازي سواء على المحطة الواحدة أو بين المحطات.
فعلى الجزيرة مثلا نجد في مقابل ” الإتجاه المعاكس” البرنامج الهادئ ” أكثر من رأي“، والآخر المنوع ” حوار مفتوح“، والبرنامج الإشكالي ” للنساء فقط“. تتعرض كل هذه البرامج لمواضيع طالما اعتبرت محرمات، وتدور جميعها، في إطار الخطوط العامة لسياسة المحطة، لكنها تحاول أن تستعير شيئا من حرارة الإتجاه المعكس.
لقد شكل برنامج للنساء فقط استثناءاً بين برامج الفضائيات العربية: نساء خبيرات، متخصصات، كوادر عليا، يتناقشن فيما بينهن في مواضيع تخص المجتمع ككل، في المجتمع، في إلاقتصاد، في التربية، في الثقافة وفي السياسة. وهذا ما شكل ظاهرة جديدة، خاصة على شاشة خليجية، حيث تشكل البرامج المخصصة للنساء، في العادة، تجسيدا ذا دلالة لالتقاء روح السوق مع روح المجتمع البطريركي القبلي: امرأة – أداة تبحث عن الموضة، التجميل، المطبخ، الثرثرات الفارغة، أو امرأة أداة للإغراء، وسواء كانت هذه أم تلك، محجبة أم سافرة، فهي دائما امرأة استهلاكية. في هذا المشهد جاء ” للنساء فقط” ليقدم نساء يخضن في نقاشات جادة ويقدمن مشهدا مختلفا، المرأة العقل، المعرفة، المسؤولية، المهنية والموقف.
غير أنّ هذا المشهد – الإستثناء لا يشكل ثورة بالنسبة لإعلام مصر ودول بلاد الشام والعراق، ففي هذه المجتمعات طالما كانت النساء متعلمات، كاتبات، فنانات، شغلن كل أنواع الوظائف وكان بينهن النائبات، القاضيات، الوزيرات[19]، كما شاركن في كافة مراحل النضال الإجتماعي والسياسي. الملمح الجديد هنا هو أن تشارك هؤلاء في نقاش عام على وسيلة إعلام في الخليج العربي، والأهم أنها فضائية، قادرة على الوصول إلى كل الناطقين بالعربية. ولذا هي تطور لا بد من تسجيله، كبرهان ومحفز يجد صداه وأرضه الخصبة في مساحات الكبت الإجتماعي الذي تعيشه النساء إضافة إلى الكبت العام الذي يشمل جميع المواطنين.
يتشكل الإعلان عن البرنامج من نجمة متحركة يتقاطع فيها الأحمر والرمادي، ويتحرك عليها عدد من النساء في أوضاع بائسة يحاولن الخروج منها. أما المواضيع المطروحة للنقاش فدقيقة تلامس منظومة القيم التقليدية وتتجاوز الإجتماعي إلى السياسي والإقتصادي وحتى الديني: “ التحرش الجنسي ضد النساء في العمل“،” حق المرأة في الإنتخاب“،” الجوائز الأدبية والفنية المخصصة للنساء“،” المعايير وغياب عدالة الإختيار“،”انتخاب ملكات الجمال هل تشكل تعديا على القيمة الإنسانية للمرأة ؟”،” الفتاوى الدينية المتعلقة بحقوق المرأة” بل أن احدى الحلقات قد خصصت للسؤال”لماذا لا تملك النساء حق الصلاة في المسجد إلى جانب الرجال؟ لماذا يصلين فيه معزولات ؟” وهذا ما أدى إلى مناقشة موضوع الإختلاط بين الجنسين الذي يعتبره بعض رجال الدين وبعض المجتمعات محرما.
لقد كلّفت هذه الجرأة في طرح القضايا القائمات على البرنامج إيقاف برنامجهن عام 2004.
بالإنتقال إلى محطة أخرى هي قناة أبوظبي الإخبارية، يقيم الباحث عبد الكريم بلحاج مقارنة بين المحطتين تنتهي بالإستنتاج التالي: “حتى ولو لم تكن محطة أبوظبي محطة إخبارية متواصلة، فإنها تتميز بالحوارات المُعَمَّقة والواقعية والهادئة”[20].
مع أن قناة أبو ظبي الفضائية ليست قناة إخبارية غير أنها تميزت عن قناتي الجزيرة والـANN بعمق الحوار، وحصول حوار حقيقي بين ضيوف البرامج بينما بقت برامج الجزيرة عبر عن مجموعة من الضيوف تتعارض آرائهم إلي حد التطرف، وهذا طبعا جزء من المهنية في العمل الإعلامي في الغرب فكلما كان الضيف قادرا علي احداث استقطاب، كلما كان ذلك أفضل بالنسبة لزيادة عدد المشاهدين.
لقد وعدت هذه المحطة، في وثيقة إنشائها أنها ستحرص على إنشاء حوارات هادئة، في إطار احترام الموضوعية المتبادلة بين المشتركين. وقد احترمت هذه المبادئ حتى في برنامج ( مواجهة ) الذي أطلقته عام 2000 كمقابل لبرنامج الإتجاه المعاكس (1996) على الجزيرة. فقد طرح برنامج مواجهة المواضيع الأكثر حساسية ولكن، في الغالب، بهدوء, على سبيل المثال: “ التطبيع بين العرب واسرائيل“،” خلافة ياسر عرفات“، مواجهة بين كاتب سوري معارض في المنفى ووزير الثقافة السوري، تمكن فيه الجانبان من مناقشة أكثر القضايا دقة وخلافية دون الخروج عن الهدوء. غير أن الإستراتيجية الثابتة للقناة لم تكن تصمد أمام بعض الحساسيات التي تبلغ درجة حرارتها مدى يحرق كل شيئ، وذلك ما يدلل عليه النموذجان التاليان:
حلقة مواجهة بتاريخ 29 نيسان 2003 بين وميض نظمي استاذ العلوم السياسية في بغداد وعضو المؤتمر القومي العربي، وانتفاض قنبر الناطق الرسمي باسم المجلس الانتقالي العراقي الذي يرأسه أحمد الشلبي. فرغم أن نظمي كان معارضا لصدام حسين إلا أنه كقومي يرفض الإحتلال الأمريكي ويدين المتعاونين”الذين جاؤوا على ظهر الدبابات الأميركية والهيلوكبتر العسكرية“. فلا يتورع قنبر عن شتمه ومن ثم الإعتداء عليه بالضرب. وراء هذا العنف تكمن حساسيات متشابكة: سنية شيعية، عربية ايرانية، قومية دينية…الخ. ولم تثمر مطالبة المحطة لقنبر بتقديم اعتذار رسمي ومكتوب للمعتدى عليه وللمحطة نفسها كون ذلك يتناقض مع سياستها المعلنة.
مثال مختلف: مواجهة هادئة في الشكل، ساخنة في المضمون في حلقة 31 كانون الثاني 2001 حول سؤال: “هل هناك ما يبرر ظهور الإسرائيليين على القنوات الفضائية العربية؟“. المذيع والمشاركان يبدون هادئين وديبلوماسيين رغم ذلك فإن الموضوع ليس بارداً فهو يلهب الشارع العربي ويحرج الحكومات: التطبيع مع اسرائيل، في بعده الإعلاني المتمثل في دعوة الإسرائيليين للحديث على شاشات الفضائيات. ضمناً، يشكّل الموضوع بحد ذاته انتقاداً موجهاً للجزيرة ول إم.بي.سي. من قبل المنافِسَةِ الصاعِدة محطة أبوظبي. يتناول النقاش المقارنة بين المحطات الدولية والعربية، العلاقة مع معسكر السلام الإسرائيلي، الحاجز النفسي، صورة الضحية في الإعلام، معرفة الآخر، الإثارة وتأثير وسائل الإعلام.
هذا الحوار الهادئ شكلاً ،الساخن مضموناً ،هو ما تبنته سياسة محطة أبوظبي. ويبدو أن العربية تماثلها في ذلك، مع فارق أن اختيار هذه الأخيرة للمشاركين يحرص على ألا تكون وجهة نظرهم متباعدة جدا، مما يعطي انطباعا بدرجة ما من الموضوعية خاصة في برنامج مثل بانوراما. لكن ثمة برامج أخرى، من مثل صناعة الموت، قد صممت لمهاجمة أعمال العنف، دون التمييز بين عنف منظمات المقاومة، سواء في لبنان أو فلسطين أو العراق، وعنف الإرهابيين. ذاك أن السياسة العامة للمحطة تفرض ذلك لسببين، الأول كونها محطة تابعة للعربية السعودية التي تعاني من عنف المعارضة والأصوليين بمن فيهم القاعدة، والتي تطرح نفسها دولة قائدة لمعسكر الإعتدال في المنطقة. التزام يترجم أيضا بدعم محمود عباس ومعسكره في فلسطين، اليمين اللبناني، والنظام المصري. والثاني هو المتعلق بمقتضيات الإحتلال الأمريكي في العراق، وعمليات المقاومة، التي توصف، في أحسن الأحوال، بأنها أعمال عنف، دون تمييز بين القاعدة وتنظيمات المقاومة العراقية.
هذا الهدوء النابع من اختيار المشاركين هو ما يحكم ايضاً حواريات المنار، ذاك أن ” محطة المقاومة“، أو حزب الله لا تفتح أبوابها لكل أنواع المشاركين: ” أنا أحرص على استضافة مشاركين معارضين للخط السياسي للمنار، شرط أن يكونوا من أعلى الهرم السياسي“[21] يؤكد عمر ناصف، صاحب برنامج ” ماذا بعد؟“. غير أنّ هذا الإنتخاب في الإختيار الذي تبرره أهداف المنار وسياسة العربية، يحترم في الاستوديو فقط، حيث تظبط ” نسبياً” ظاهرة اطلاق المكبوتات. أمّا على الهاتف فتعود الأمور إلى حالها ويتباين المتدخلون عبر الهاتف الذين يؤشر ” خطاب، لهجة، ونبرة معظمهم إلى انتمائهم للطبقات الوسطى والعاملة“[22].
أهو مؤشر تفاؤل فيما يخص الديموقراطية كما يعتقد ديفيد هيرتس الذي يعبر عن ارتياحه بالبدء ” باطلاق مكبوتات الجميع“[23]. اعتماداً على أنّ هذا الإطلاق يشكل سيكولوجيا، كما قلنا سابقاً، شرطاً أولياً للتوازن الذي يسمح بنشوء تفكير عقلاني ومنطق جدلي؟ أم انّه شرط، ولكنه ليس ” الشرط“. بل انه، في غياب الشروط الأخرى، يصبح طريقاً للخلط المؤدي إلى فوضى فكرية في قضايا تحتاج إلى معارف دقيقة وموضوعية؟
الاثنان معاً، ذاك أن هذه الطبقات، المتوسطة والعاملة، هي التي تقوم، تاريخياً، بعملية التغيير. ومن شأن فكرة امتلاك حق التدخل المباشر عبر الهاتف، والتعبير بحرية، أن تدفع المشاهد إلى متابعة النقاش بتنبه أكثر، وبفهم الحجج المطروحة ومحاكمتها. صحيح أن عددا كبيرا من هؤلاء المتصلين ينطلق من أفكارا مسبقة، وكثيرا منهم يوحون أنهم يقرأون من ورقة أعدت مسبقا، وربما بالإتفاق مع واحد من أطراف النقاش أو مع المذيع. وأن كثيرين أيضا يلجؤون إلى الصراخ الذي يصل أحيانا حد الشتم، لكن فئة أخرى من المتصلين عبر الهاتف تقدم مداخلات ذات قيمة تحليلية وعلمية موثقة بنصوص ووقائع، كما يحيل بعضهم إلى نصوص دينية “آيات وأحاديث”. والواقع ان لهذه المشاركة الحماسية ميزات ومشاكل: فالجمهور المتعود على رسالة اعلامية تملي عليه كل شيئ، يجد نفسع فجأة في برج بابل، وهو بحاجة إلى أدوات ومعارف ومعايير تضع أسس قدرااته على الاختيار والمحاكمة العقلانية. لا شك في أن هناك جزءا من الجمهور العربي يمتلك ذلك بالنظر إلى تاريخ الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية والانفتاح المعرفي على العالم. ولكن هناك الجزء الآخر الذي يقتصر على ردة الفعل العاطفية والفئوية.خاصة وان ثمة عوامل عدة تشجع ردات الفعل هذه: الاول أن المشاهد يعيش في مناخ من التوتر الذي يتجاوز الفردي والشخصي ويأتي من شمولية المحيط بحسب نظرية (Seley). العنصر الثاني يكمن في المنافسة بين المحطات على اللحاق بالحدث مما لا يترك فرصة لتعميق الافكار وذاك ما يعترف به مسؤولو المحطات أنفسهم، من مثل ابراهيم هلال في الجزيرة[24]. العنصر الثالث يكمن في الشفوية التي لا تسمح للمجتمعات بأن تقف على مسافة من نفسها، كما يقول بول عطالله: “لا تستطيع الأفكار أن تصبح أبدا موضوع جدل نقدي وموضوعي مدعّم طالما أن المشاهد لا يستطيع تجميد الكلام، وقفه بشكل ملموس، مدة تكفي لتحليله، لمقارنته، ولنقده” ولذلك فإنه (المشاهد) يصبح خاضعاً ” لسلطة شبه سحرية“[25] لكنها آنية، لا يحمل منها إلا ” ذاكرة قصيرة“[26] على المستوى الفردي والجمعي.
ثمة عاملان آخران يدعمان هذا التحليل: سرعة الحوار نفسه من جهة، وظاهرة معممة تتمثل في الشريط الإخباري المكتوب الذي يتحرك في أسفل الشاشة، ناقلا آخر الأخبار مما يكرس الانية وبسرعة تجعله مشابها للشفوية. مما يشتت حواس وتركيز المشاهد بين شاشتين متحركتين في آن “الشاشة الكبيرة والشريط . وإذا ما قرأنا ذلك في نظرية ماكلوهان حول العلاقة بين الشفوية وعودة القَبَليّة فإننا نصل على أن لهذا النوع من التلقي آثارا سلبية على بناء الفرد الديموقراطي. آثار تتحدد، رغم ذلك، بمدى حضور الجدل العام على الساحة العامة. وهنا يختلف الوضع من دولة عربية إلى اخرى، ففي لبنان مثلا، لم يقتصر هذا الجدل على الشاشات، بل أن وسائل الإعلام هي التي تلهث كي تواكب ما يحصل على الأرض. من هنا ليس أمام المحطات، ومنها المنار، خيار في شأن الانفتاح. غير أن تعاقب الأحداث التي عاشتها البلاد يتجه إلى جعل النقاش مقتصرا، أكثر فأكثر على قضايا تتعلق بالحدث العابر، وضمن أطر التوزع الطائفي. اما في دول عربية أخرى، فنجد الجدل العام، بدرجات مختلفة، لكنه بشكل عام يدور في دوائر سرية أو محصورة وأحيانا مقموعة، غير مسموح له التواجد على الساحة العامة ولا هو متجذر في التربية. حتى اذا استطاع التحرر، كان ذلك ضمن طبقات النخب وفي اطار الإنتاج الأدبي والثقافي والفكري، الذي لا يطال إلا هذه الطبقات، خاصة مع إقصاء الموضوع الثقافي عن جدول البرامج التلفزيونية. وهكذا يعيش المشاهد بعيدا عما يحصل على الشاشات فيما يخص مساحة الحرية التي يتمتع بها في حياته الواقعية، لكن هؤلاء الذين على الشاشات هم من هذا المجتمع، و” الإقناع (Persuasion) بصفته نشاطا معرفيا يتعلق بالمشاهد وبمعالجة المادة الإخبارية، لا يهدف إلى إطلاق المكبوتات أو للإستحواذ (appropriation) على الفكر دون أية فعالية تحليلية[27]. من هنا فإنه يمكن للدول والاحزاب التي تمول الجزيرة وأبوظبي والعربية والمنار أن تمارس، كما المشاهد، عملية إستحواذ (appropriation)، يرفضها الآخرون بمن فيهم الذين يستفيدون منها، ذاك أن ثقل التاريخ والجغرافيا يفرض نفسه.
بالمقابل، فإن تعدد المحطات، تنوعها، تنافسها بل وخلافاتها يفسح المجال لجميع الآراء: فما هو محرم لدى واحدة هو مطلوب موضوعيٌّ لدى الأخرى، مما ” يوحي بالأمل بأن دائرة القمع والتحوير في المنطقة يمكن أن تنكسر“.[28] وحتى الاعتراض السائد بأن النقاش لا يؤدي في النهاية إلى شيئ، فهو يبدو، في العمق، اعتراضا غير ديموقراطي، لأنه من غير المطلوب من المتناظرين والمذيعين أن يملوا على المشاهد رأيه وأفكاره حول الموضوع المطروح، ولا أن يصلوا بالجميع إلى تبني رأي واحد. إن دورهم أن يطرحوا، يقدموا، يرافعوا، يحللوا ويتركوا للآخر أن يفكر ويختار. إنه عمل يشبه المدرسة التكعيبية في الرسم، التي ” أحلّت محل “وجهة النظر” و” وهم المنظورية“( perpsctive)، رؤية متعاقبة للموضوع من كل جوانبه“[29] هكذا فإن تعدد وجهات النظر التي يطرحها المتناظرون والمتدخلون وتعدد وتنوع البرامج والمحطات، ترسم كلها لوحة تلفزيونية تشبة “التكعيبية التي، وهي تعيد إلينا الداخل والخارج، الفوق والتحت، الأمام والخلف وكل ما تبقى من البعدين تلغي وهم المنظورية لصالح وعي حسي وآني بالكل، وبدلا من الوهم المتخصص بالبعد الثالث، تضع على اللوحة تداخلا متفاعلا للمخططات، تناقضا وصراعا دراميا بين الانماط، الإضاءة، القماش، ضمن عملية تفاعل تفرض الرسالة بواسطة المشاركة“.[30] هذا الوعي الحسي وهذه المشاركة على واسطة (Medium) اخرى هي التلفزيون تفعّل “العبور من الإتصال الخطي (Linear Connection) إلى إعادة التصور (Configuration)“[31] ممّا يشكل عوامل تفعّل تغيير الأفكار والسلوكيات باتجاه ديموقراطي، خاصة وأن حركة المجتمعات العربية موسومة باخفاقات الحاضر، لكنها من جهة أخرى مختزنة لطاقة التاريخ والثقافة من جهة وفعل المقاومة السياسية الثقافية وحتى المسلحة من جهة أخرى، مضافة إلى انفتاح معرفي على العالم لعبت فيه وسائل الإتصال دورا مهما. وربما تساعدنا المقارنة مع التطور التاريخي في فرنسا على تقييم ما: ففي عام 1886 كانت حلقات النقاش مجازة في تلك البلاد شرط ألا تتناول المواضيع السياسية والدينية. كذلك فإن ما عرف ب”النقاشات الجامعية” كان إلى حد ما حرا، غير أن نتائجه كانت تخضع لرقابة الكنيسة. أما في الجمهورية الثالثة فإن الجدل العام كان محظورا على الساحة العامة وكذلك في النوادي بحجة أن ذلك يحمل خطورة تحويل الجماعات (Community) إلى وسائل تصبح منافسة للسلطة. وهكذا كانت السلطتان الدينية والسياسية وراء تحجيم نتائج الجدل العام.
على شاشة الفضائيات الإخبارية العربية يشكل الموضوع السياسي مادة مطروحة للنقاش، أما الديني، فلا يقاربه إلا الشيوخ وتحت رقابة مرجعيات محددة ” القرضاوي في الجزيرة، العودة في العربية، مجلس الشورى في المنار“. وبذلك يسيطر هؤلاء على الرسالة الاعلامية عبر برامجهم وفتاويهم وعبر رقابتهم على البرامج الأخرى. من جهة أخرى نلاحظ الفجوة بين تحرير النقاش التلفزيوني وتحديد حرية التجمع والنقاش على الساحة العامة، مما يُفسّر بحرص السلطات الدينية والسياسية على قطع الطريق على كل ما يجعل من الجدل العام والجماعات العامة تهديدا محتملا، وتحديد كل أنواع “الحركات الاجتماعية التي تحاول الإنفلات من ذلك”[32].
غير أن هذه المقارنة تقودنا إلى أن المحددات الفرنسية التي ذكرنا، لم تستطع أن تمنع التطور الديموقراطي بفضل تطور ثقافي معين وظروف تاريخية مؤاتية. أوليست هذه الأشكال الحوارية التي نناقشها مشابهة للأشكال التي ظهرت في القرن الثامن عشر في الغرب وكانت في أساس ظهور وتشكل الفضاء العام؟[33]
ثانيا المواضيع المغيبة: التهميش والإقصاء
تبقى القضية الأكثر حساسية، قضية الإقصاء، المواضيع المطروحة للنقاش ليست هي الأهم حتى ولو كانت ترتبط بالحدث الساخن، أما المواضيع التي يتم تهميشها وإقصاؤها فهي اجتماعية واقتصادية وسياسية. وإذ يدعي القائمون على المحطات الإخبارية أن المواضيع الإجتماعية لا تدخل في دائرة تخصص محطاتهم، فإن الكثير من القضايا الإقتصادية والسياسية يتعرض للتهميش والإقصاء بحيث أن وزير الإعلام اللبناني غازي العريضي يتساءل من على شاشة الجزيرة: ” أين هي السياسة الإعلامية التي تخدم قضايانا المركزية؟ الصراع العربي الإسرائيلي، المقاومة، القضايا الإقتصادية، النفط، الماء، المال، قضايا الشباب والديموغرافيا؟ إن الإقصاء نسبي لكن السؤال الكبير هو: هل لدينا استراتيجية اعلامية تركز على هذه القضايا؟” سؤال يرد عليه بنفسه قائلا ” لا استقلالية للمحطات إلا نسبيا، ذاك أن وراء كل محطة حكومة أو قوة سياسية محددة، لنكن صريحين، هي موجودة لخدمتها“[34].
عالم الاجتماع نبيل دجاني يؤطر الموضوع بشكل أدق: “على وسائل الإعلام أن تؤدي عدة أدوار: السياسي، الاقتصادي والاجتماعي. في العالم العربي يتم التركيز على المجالين الأولين، لأنهما يقعان في دائرة اهتمام ومصالح هذه الوسائل والحكومات التي تدعمها. ويتم استبعاد الثالث الذي لا يهتم به أحد من هؤلاء. اذا فالمواطن هو المستبعد“[35]. إن إقصاء المواطن هو ما يترجم بإقصاء المواضيع التي تقع في أساس التنمية البشرية المستمرة. تورد مقدمة نقرير التنمية البشرية لعام 2000 قولا لماري روبنسون المفوضة العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان: ” المطلوب هو إحقاق جميح الحقوق المدنية، الثقافية، الاقتصادية، السياسية والاجتماعية، لكل الافراد. حق الوصول إلى التعليم الاساسي، إلى الخدمات الصحية، الحق في السكن، في العمل، كلها أساسية، بقدر الحقوق السياسية والمدنية لتأمين الحرية الإنسانية“[36]. في ذات السياق، يعتبر نادر فرجاني أن ” فشل التنمية إن هو إلا فشل بناء القدرات البشرية، في التعليم وفي التعليم المستمر“[37] ذاك أن التعليم هو مشروع بلورة الشخصية الإنسانية ولا بد من استكماله بالبناء الثقافي.
1- التعليم والأُميّة مثال أول للقضايا المُهمّشة
التعليم حق أقرّه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكرّسته المادة 13 من الميثاق الدولي للحقوق الإجتماعية، الإقتصادية والثقافية، ثم حددته بشكل جوهري المادتان 28 و29 من معاهدة الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الطفل[38]. وهو حق يقع في صميم مسؤولية الدولة، المجتمع وبالتالي الميديا. ويمكن لوسائل الإعلام المرئية ان تؤدي هذا الدور بطريقتين: إثارة المواضيع المتعلقة بالتعليم ومناقشتها في البرامج والمساهمة في عملية التعليم عبر ما تقدمه في إطار التعليم غير النظامي والتعليم المستمر، خاصة عندما يتعلق الأمر بمجتمعات تعاني من مستوى عال من الأمية ومن تفاوت الفرص والحقوق كما من عدم الإستقرار على كل الأصعدة.
غير أن قضايا التعليم هي شبه غائبة عن البرامج التلفزيونية. اما عندما نتحدث عن التعليم المستمر، فإن ما يطرح للنقاش هو طبيعة المعارف والقيم ومنهجية المعرفة التي تنقلها البرامج. وإذا كان الحق في التعلم لا يقع في صميم مسؤولية وسائل الإعلام، فإن إثارة النقاش حول تطبيقات هذا الحق في الدول العربية هي في صميم هذه السؤولية.
1) أما العوامل التي تتقاطع مع التعليم وتغيب بدورها عن البرامج، خاصة الحوارية النقاشية:
الأمية: بحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2005 في العالم العربي 65 مليون أمّي، ثلثاهم من النساء. وتأتي المغرب في الرتبة الأولى من أمية النساء 64%، تليها الجزائر 42% ثم تونس 39%، فيما يحتل لبنان المرتبة الأولى من حيث نسبة وجود الفتيات في المرحلة الثانوية 85%، تليه الأردن 84% ثم الكويت 83%[39].
تتفاقم هذه المشاكل في المناطق الزراعية، الأحياء الفقيرة وفي المناطق التي تعاني من النزاعات، اذا لدى غالبية السكان في العالم العربي. والمفارقة أن تأثيرات التلفزيون تتركز في هذه المناطق أكثر منها في المناطق الأخرى للأسباب التالية: إمكانية تخصيص وقت أطول للمشاهدة التلفزيونية، كون هذه المشاهدة تتم غالبا بشكل جمعي ( العائلة أو ما هو أوسع ) متابعة الحدث أول بأول من قبل جمهور يعاني من عدم الاستقرار ومن القلق على كل التطورات، تفوق وسائل الإعلام المرئي والمسموع على المكتوب وقدرتها على الوصول إلى الشرائح الأمية.اضافة إلى عنصر خاص بمناطق الصراعات المسلحة حيث يصبح التلفزيون الوسيلة الوحيدة لمتابعة الحدث وتحصيل المعارف بسبب خطورة الحركة أو منع التجول . هنا يقدم العراق نموذجا بليغا ؛ ففي عام 1987 حصل على جائزة اليونسكو لمحو الأمية (100% من الأطفال كانوا في المدارس)، أما في فترة الحصار بين عامي فلم يتم انشاء أي مدرسة جديدة، وفي فترة الاحتلال 2004 حتى 2008 وصل مستوى الأمية إلى 61% في صفوف الشريحة العمرية بين 15-25[40]، 70% من المدارس تعاني من الحاجة للترميم، نقص المختبرات العلمية. 50 الف طفل يتسربون من المدارس كل عام، مليوني طفل لا يذهبون إلى المدرسة أساسا ولم تشيد وزارة التعليم أي مدرسة جديدو منذ الاحتلال 2003[41]. ويلحظ تقرير مدير معهد الأمم المتحدة للقيادة الدولية 2005 أن 700 مدرسة قد تعرضت للقصف و3000 مدرسة للحريق، أن 48% من مؤسسات التعليم العالي قد نهبت أو دمرت. بضاف إلى ذلك اغتيال 116 استاذ عالم عراقي بين 2003- 2006، و163 بين 2006-2010[42]، رغم ذلك كان علينا أن ننتظر حتى 2009 لنرى هذه القضية تطرح في برنامج تلفزيوني على إحدى الفضائيات الإخبارية، حيث تناولتها حلقة من ” المشهد العراقي” على الجزيرة. ولكن لتظل حلقة يتيمة[43].
أما فلسطين فتقدم أراضيها المحتلة نموذجا آخر لهذه المشكلة، حيث تعاني من تدمير البنى التحتية للتعليم ومن صعوبة انتقال الطلاب من بيوتهم إلى المدارس بحيث يصبح مصطلح ” الالتحاق بالمدرسة“[44] الوارد في شرعة حقوق الانسان ذا معنى مادياً ملموس، اذ تأتي الصعوبات المالية مضافة إلى الصعوبات الأمنية لتجعل عملية التنقل صعبة وأحيانا مستحيلة. لم يثر هذا الموضوع في الفضائيات الاخبارية إلا نادرا كما في احدى حلقات برنامج “مجرد سؤال” للمذيع الإماراتي جابر عبيد المعروف بحسّه بالحياة اليومية. حيث خصص عبيد 15 دقيقة لعنوان ” معاناة الطلاب الفلسطينيين في الوصول إلى المدرسة“[45]. وكان المتحدثان طالب في جامعة 6 أكتوبر في ناباس ووالدته.
عدا ذلك نادرا ما تذكر قضية التعليم في البرامج التلفزيونية رغم أن الموضوع الفلسطيني هو ما يحتل معظم ساعات البث على الفضائيات الإخبارية.
2) إذا كان هذا القصور يستحق اهتماماً خاصاً من وسائل الإعلام، خاصة عندما تكون حكومية أو شبه حكومية، فإن الأمر يطرح ” السؤال حول الدور الرسمي الذي تطلع به الدولة ( أو لا تطلع ) في موضوع التعليم، ذاك أنه وعلى عكس الحقوق الأخرى على الدولة هنا أن تتكفل بتأمين الإطار اللازم لممارسة هذا الحق، دون أن يكون على الأطفال أو أسرهم أن يطالبو به“[46]، لكننا وعلى العكس من ذلك، نرى تراجعا في ميزانية التعليم في الدول العربية ( 20% عام 1980- 10% عام 2000 ) كذلك في ميزانية البحث العلمي ( 0.2% )[47]. ويأتي هذا التلراجع كنتيجة للمشكلات الاقتصادية والسياسية الثقيلة مقترنة بالقصور في الرؤية الاستراتيجية ” عندما يكون على الدول أن تتحمل أعباء ديون اقتصادية ضخمة فإن ذلك يقودها إلى التقليل من فرص الوصول إلى الحاجات الاجتماعية، خاصة الحاجة إلى التعليم“[48]. ( علما بأن موضوع الديون هذا يقع في مقدمة قائمة المواضيع الخاضعة للإقصاء عن البرامج ).
ج) إلى جانب البعد الكمي تبدو قضية المضمون والمنهجية في التعليم ذات أهمية قصوى، ولذلك فإنها تعاني من نفس حالة الإقصاء عن برامج النقاش التلفزيوني. وهنا نواجه أيضا، أكثر فأكثر، تأثير التلفزيون عبر عملية التعليم المستمر. ذاك أن ” الاعتراف بالحق في التعليم لكل كائن بشري، لا يقتصر على التأكيد على تمكن كل شخص من الوصول إلى تعلّم ما، أي إلى الوصول إلى التقنيات الاساسية المتمثلة في القراءة والحساب، بل إنه يتعدّى إلى إعلان التأكيد بحق كل شخص، اضافة إلى التحصيل الاساسي، في أن يتمكن من التطوير الكامل والمستمر لقدراته الفكرية والعاطفية والنفسية والاجتماعية“[49].
وبذا يودنا البحث إلى مناقشة شكل ومضمون برامج الجِدال الحوارية: فهي ممارسة المسؤولية والاحترام حتى وان لم تكن تطبيقا حقيقيا للتسامح، فالمتحاورون والتدخلون لم ينشأوو في بيئة تفعّل قدرات التحليل والعقل النقدي، ولا مفاهيم احترام حق الآخر في الاختلاف ولا الاعتراف بحريته في الرأي. ومن هنا تتضافر الممارسة التلفزيونية مع المناهج التربوية. لا نقول بأن على البرامج التلفزيونية أن تحل محل المدرسة، المجتمع أو الدولة، ولكن من طبيعة مهمتها أن تلقي الضوء، أن تناقش، أن تحرض سلبا أو ايجابا عبر اثارة المواضيع الحساسة.
غير أن الجمهور هو الذي يحدد تاثير المادة الاعلامية. مما يطرح اشكالية التلقي الذي يمكنه أن يقلب الأدوار وذلك ما يعيدنا إلى مدرسة (cultural studies) وتييري ايجلتون. حيث “”ان الرسالة الاعلامية تحدد التفكيك الصحيح لها ومنظور اطار القصدية الذي تحمله“[50]، بما في ذلك التفكيك النقدي للرسالة. من هنا السؤال حول الحيز المعطى للمواضيع الثقافية على جدول البرامج وخاصّة الجدال الحوارية منها. حول الحيّز وحول توقيت البث كما سبق وأشرنا.
2- البرامج الثقافية، تموذج ثان من التهميش.
يمكن للبرامج الثقافية، أن تعيد التوازن ولو نسبيا، في حال قصور التعليم. لكن الموضوع الثقافي، أو الفكري، لا يشكل أبدا موضوعاً لبرامج الجدال الحوارية، واذا خصصت نادرا برامج للثقافة، فتكون واذا كانت قنوات المنوّعات التي تخصص 60% من برامجها للتسلية، فأن الوضع ليس أفضل في القنوات الإخبارية[51].
رغم أن هذا البحث لا يتناول عملية التلقي، فإن هذا الموضوع لا يمكن فصله عن ” الرحم الثقافي الذي يتحرك ضمنه“[52].فالعمل الثقافي هو عمل ذاكرة، موروث، رؤية للمستقبل، تجذر في الذات وانفتاح على العالم. كذلك فهو عمل جدل مع الذات وابداع فردي، خيار حر وانطلاق نحو التغيير المتواصل. اضافة الى يكتسي، في العالم العربي، خصوصية محددة: حيث ان الثقافة هي المجال الوحيد الذي لم يتأثر بالحدود السياسية بين الدول العربية، وهي بذلك التعبير الوحيد عن الوحدة: الأدب، المسرح، الموسيقى، السينما والفنون التشكيلية، لا تميز، كلها، بين جنسية وأخرى، كما ينتشر انتاجها وتأثيراته في فضاء مفتوح واحد واتجاه، غالبا ما يكون معارضا للسلطات القائمة.
من هنا، فإن اطلاق الحوار الثقافي لا ينسجم مع مصالح الأنظمة من جهة، ولا مع حاجات العولمة التي تعمل على قولبة أفراد متشابهين، مُستهلَكين، خاضعين، وفقَ طِراز رسمه السوق. فيما يختلف تماما عن مفهوم العالمية الإنسانية المفتوحة، التي ترى أن الحصارة الإنسانية ليست إلا النهر العظيم الذي تصب به روافد الثقافات المختلفة، لتعود فتتوزع من جديد كما في الأواني المُستطرَقَة اذا لم تحل دونها المعوقات.
في تطبيق ذلك على القنوات موضوع البحث، نجد أن الحوار الثقافي والفكري شبه غائب عن برامج الجدال الحوارية على المحطات الاخبارية ، فعلى كل من الجزيرة والعربية نجد برنامجا ثقافيا واحدا يبث في وقت مبكر جدا من المساء، لا يناسب أبدا شريحة المشاهدين البالغين. على محطة أبوظبي نجد برنامجا ثقافيا في ساعات الذروة، اما المنار، اذ تحدد أهدافها، تضع بينها “خدمة الثقافة”، لكن هذه الخدمة هي دائما محددة بالمعايير الدينية ل” الحفاظ على القيم الإسلامية ولتفعيل الدور الحضاري للمجموعة العربية الإسلامية“[53]. مما يغيب الكثير من المواضيع السائدة والمهمة. رغم أن مسؤولي البرامج يؤكدون على عزمهم توسيع حصة البرامج الثقافية التي تحتل 20% على جدول البرامج. لكن هذه ال20% تشمل البرامج الدينية أيضا باعتبارها برامج ثقافية.
ثالثا: الإقصاء
” ما لا تراه هو ما يشكل لك خطرا. أي غطاس يمكن أن يقول لك: لا تخف من أسماك القرش التي تراها أمامك تحت الماء، احذر تلك التي لا تُرى“[54].
نبدأ بالإقصاء الأكثر بساطة وتعميما: المواضيع المتعلقة بالدول التي تمول المحطات المعنية، دول الخليج بالنسبة لمحطات الخليج، والمواضيع التي تمس سرية حزب الله بالنسبة للمنار.
1- المواضيع الاقتصادية والسياسية ذات الأثر المباشر
1- يطرح سليم عزوز على فيصل القاسم السؤال التالي: ” لماذا لا تتناول محطتكم أبدا، قضايا حقوق الانسان في قطر، في حين ان تقرير رويترز لشهر آب 1998 يضع قطر بين الدول التي يطبق أعلى درجات الرقابة على وسائل الإعلام المحلية؟…لماذا لزمتم الصمت حول قضية الصحفية مريم السّعد ورئيس تحرير جريدة الراية؟ ألم يفصل الإثنان من عملهما ويمنعان من العمل بسبب استجواب نشر في الصحيفة حول تبذير الأموال العامة في قطر؟“[55].
كذلك هو الأمر بالنسبة لمحطة أبوظبي، أما العربية السعودية، فإن تعدد مراكز القوى، وتعدد امتدادات هذه المراكز داخل المحطة، يترك المجال لتسرب بعض المواضيع التي تخص المملكة دون أن يكون بينها اطلاقا ما يتعلق بحقوق الانسان مثلا، فالمحرمات محترمة، وهوية المشاركين مدروسة جيدا. هذا الاقصاء دفع مجموعة من الشباب المدونين إلى تأسيس موقع أعطوه اسم ” الاتجاه المعاكس” تيمنا بالبرنامج الذي يدعي أنه أكثر جرأة. وعلى هذا الموقع يطرح الشباب مواضيع حساسة حول انتهاكات حقوق الانسان في الدول العربية، خاصة في دول الخليج، بالخلافات داخل الأسر الحاكمة، بالفساد، بالمشاكل الاجتماعية التي يتم التعتيم عليها، ليس في الاعلام فقط بل وفي جميع المجالات. ويتوج الشباب موقعهم بسؤال: ” أين هي هذه المواضيع على شاشات التلفزيونات؟”
2- موضوع الوراثة، هذا الموضوع المطروح بسخونة حادة في دوائر السلطة وأحيانا في الشارع، وقليلا في الصحافة المكتوبة، ومغيب تماما عن الشاشات
ج- التابو السياسي المشترك: الوجودالأميركي في الخليج: القواعد الاجنبية و كذلك الاتفاقيات الأمنية المعقودة مع الغرب تشكل محرمات لا تجوز الإشارة إليها.
د- ميزانية الدولة
” أين يذهب نفط البلاد؟ “[56] هذا السؤال الذي يطرحه قروي يمني على الصحفي وليد السقاف هو سؤال محرم على الصحفيين أنفسهم وبالطبع على شاشات التلفزيون. ففي غياب ميزانية واضحة للدولة في عدة دول عربية، خاصة دول الخليج النفطية، يحظر اثارة هذا الموضوع على الشاشات.
2-اقصاءات اقتصادية واجتماعية تفرضها العوامل السياسية
يطال الإقصاء أيضا مواضيع لا تبدو في الظاهر ذات طبيعة سياسية. وذاك ما تفرضه متطلبات سياسية، اجتماعية أو دينية، باختصار، متطلبات السلطات المهيمنة. وكثيرا ما تختلط هذه المتطلبات لتشكل شبكة تفاعلية.
1- الفساد
يلقي نادر فرجاني الضوء على ” تزاوج الفساد مع القمع والتبعية للقوى الأجنبية“. ويقدم مثالين على ذلك، البلدين الأهم في العالم العربي، مصر والعربية السعودية.
” تمثل مصر، “القوة الناعمة” الديموغرافية المبدعة خاصة في المجالات الاعلامية، الاجتماعية، الادبية والفنية. لقد تلقت الحكومة خلال 30 سنة 150مليار دولار من المساعدات الخارجية، رغم ذلك تراجع مستوى معيشة الشعب على كل الأصعدة. أما في العربية السعودية البلد الأكثر ثراء في العالم العربي، فإن المناطق القروية تعاني من الفقر، ونصف الشباب عاطلون عن العمل، بمن فيهم المتعلمون. كما تعاني هذه المناطق من مختلف المشاكل والامراض الاجتماعية“[57]. ويكمل الباحث شاكياً غياب مناقشة هذه المواضيع عن برامج الجدال الحوارية على الفضائيات العربية: ” تشتم الجزيرة مصر، وتهاجم العربية السعودية بشكل غير مباشر، لكنها لا تطرح أبدا المواضيع الحقيقية لأنها تمس جميع الدول وجميع الأنضمة“[58]. إنها استراتيجية معتمدة في القنوات الثلاث التي يتناولها هذا البحث. وهي تفضي إلى موضوع جانبي هو موضوع العلاقة بين الرواتب والتسهيلات التي يحصل عليها الصحفيون العملون في الخليج بالنسبة لزملائهم في الدول العربية الأخرى وبين قدرتهم أو رغبتهم في التجرؤ. قضية تذكر بما كتبه جايمس فالوس رئيس تحرير (يو.اس.نيوز أون وارلد ريبورت U.S. news on world report ): ” يصبح موقف الصحافيين المشهورين أكثر تحفظا ومحافظة بقدر ما ترتفع دخولهم، مما يطرح مسألة العلاقة بين مداخيل بعض الصحفيين واخلاصهم لأيدولوجية الطبقات الحاكمة“[59].
في الدول غير النفطية، يهيمن رجال السلطة والمقربون منهم على مصادر الثروات الأخرى، مما يرفع أيضا مؤشر الفساد إلى أعلى درجاته: ” يرتبط الفساد بعدة عوامل، غياب الديموقراطية، الاستثمار الأجنبي والخصخصة التي تؤدي إلى بيع المؤسسات العامة. ويرتبط الفساد أيضا، بغياب الشفافية في النقاش الاعلامي“[60].
2- العلاقة بين الحريات الإعلامية، التنمية والقضاء على الفقر،
يلتقي خبراء اليونسكو مع فرجاني حول العلاقة بين حرية الإعلام، التنمية والقضاء على الفقر: ليست الفضائيات مسؤولة عن الفقر، لكن صمتها عنه يفاقمه: ” تبرهن الوقائع على أن آثار الحدود المفروضة على الصحافة فيما يخص الفساد، الفقر والتخلف، هي آثار هائلة“[61] ويؤكد أمارتياسن، حامل جائزة نوبل، العلاقة بين الحرية والتقاء المجاعات: ” لم يحصل أن اشتاحت المجاعة بلداً ذا نظام ديموقراطي وصحافة حرة…حيث أن الصحافة الحرة تساهم في تحفيز الناس على مطالبة حكوماتهم بحقوقهم“[62].
لقد كانت الجزيرة رائدة في اثارة موضوع المجاعة في النيجر، لكنها بالمقابل، لزمت الصمت حول المجاعة في مناطق من العالم العربي. ذاك أن محرضاتها لم تكن انسانية كما ادّعت، وإنما هي محرضات اقتصادية تتعلق بالنفط، وسياسية تتعلق بنشر الاسلام السياسي في تلك المنطقة، وهما هدفان مترابطان.
من جهة ثانية، يرتبط الفقر والبطالة في علاقة تفاعلية تبادلية، وتغيب هذه المواضيع كلها عن الحوارات الحاصلة على شاشات الفضائيات رغم أن تقرير التنمية البشرية قد سجل منذ العام 2000 أن 73 مليون شخص في العالم العربي هم تحت خط الفقر، 15 مليون يعانون من البطالة، و10 مليون يعانون من نقص الغذاء[63]. في العام 2005 سجل التقرير ارتفاع معدلات الفقر بمعدّل 33.6 مليون نسمة. ” تبلغ معدلات البطالة في العالم العربي 3 أضعاف المعدل العالمي، وترتفع في صفوف النساء والشباب، حيث تبدو الدول العربية بعيدة عن تأمين الفرص المتساوية والكريمة لهذه الاجيال…وبحسب تطور الدخل القومي الخام، فإن على المواطن العربي أن ينتظر 140 سنة كي يضاعف دخله“[64]. أمّا في العام 2009 فإن عدد العاطلين عن العمل قد ارتفع بنسبة 14.4% وسيكون على الدول العربية أن تخلق 51 مليون فرصة عمل عام 2020[65].
تتداخل مشكلة البطالة مع قضية الهجرة. لقد كان بإمكان العالم العربي أن يُقيم توازناً بين دُوَلِهِ النفطية الغنية بالثروات والفقيرة بالديموغرافيا ودُوَلِهِ الفقيرة بالثروات والغنية بالديموغرافيا. غير أن ذلك لم يتحقق وكان الآسيويون والأوروبيون أكثر من استفاد من ثروات الخليج. يورد تقرير التنمية البشرية التصنيف التالي لمعدلات الهجرة (على المستوى العالمي ): الامارات الأولى( 69% )، الكويت الثانية (49% )، الأردن الثالثة (39% )، عُمان السادسة (26% ) والعربية السعودية التاسعة (24% ). ولكن ما يجب أخذه في الاعتبار ان الهجرة في الأردن مختلفة عن مثيلاتها في الدول الأخرى التي يوردها التقرير. التقرير الذي يُعِد الفلسطينيين ومن ثمَّ العراقيين في نسب المهاجرين. فهي اذا هجرة عربية، ومرتبطة بقضية سياسية بحتة، مما يجعل نتائجها وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية مختلفة تماما عن تلك التي تطرحها الهجرة في الخليج. غير أننا لا نجد معالجة أو مناقشة لأيّ من هذه المشاكل على شاشات الفضائيات.
ج- البيئة
يجمع موضوع البيئة عناصر سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية. فهو يمس مصالح الشركات الكبرى، خاصة النفطية منها، كما يمس مصالح الطبقات السياسية المهيمنة. يطرح هذا الموضوع عدّة قضايا:
- قضية المصادر الطبيعية، خاصة الماء الذي يشكل رهان العصر بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، ولا يمتلك العالم العري منه الا 277 مليون متر مكعب.
- مسألة مراقبة المنتجات الزراعية.
- النفايات النووية والكيواوية التي يتم تهريبها للمنطقة، خاصة لبنان.
- آثار المفاعلات النووية، خاصة مفاعل ديمونة الإسرائيلي على الدول المحيطة ( الاردن بشكل خاص ).
- أخيرا، الموضوع الحسّاس، موضوع التلوّث الذي تسبب به استعمال الأميركيين للأسلحة المحرمة في حربهم على العراق، والإسرائيليين في فلسطين ولبنان.
أما حصار العراق بين عامي 1991-2003 فقد ترك آثارا مدمرة على البيئة، ففي حين ظهرت تقارير خطيرة حول الموضوع في الصحافة الدولية ( من مثل تقرير خبير الأمم المتحدة للزراعة رينية دو مو الذي نشرته صحيفة لو موند ديبلوماتيك ) فإن أيا من الفضائيات العربية لم تثر هذا الموضوع. بل إن الإعلام العراقي نفسه تجنب الحديث عن ذلك، كي لا يثير هلع المواطنين وكي لا يستفز الأنضمة الخليجية والأميركية.
في العراق ثمة قضية أخرى تجاهلت الفضائيات إثارتها تجاهلا كاملا. إنها قضية تدمير المواقع الأثرية والثقافية، المتاحف والمكتبات العامة، فمنذ حرب عام 1991 وبدء الحصار، قايضت الأمم المتحدة عودتها وإعادة دفع حصتها في تمويل اليونسكو عام 1992 بوقف التحقيق الذي كانت لجنة الحفاظ على التراث الإنساني قد باشرته حول موقع أور في جنوب العراق. بعد اثنتي عشر سنة، عام 2003، احتل الجيش الأميريكي البلاد، فوجهت جمعية الاركولوجيين العرب نداءا وقعة 230 مثقفا من 25 جنسية، لانقاذ التراث الوطني العراقي. اعتمد النداء على اتفاقية لاهاي لعام 1952 حول حماية التراث الإنساني. كذلك أطلقت اللجنة الثقافية في اتحاد الصحافيين العرب نداءا بخصوص 170 ألف قطعة أثرية اختفت من مخازن المتحف الوطني العراقي والبنك المركزي، رغم ذلك، لم يتناول أي برنامج تلفزيوني هذه القضايا الخطيرة أو يطرحها للحوار، رغم أن النداءات قد استمرت خلال السنوات السبع الأولى للاحتلال؛ نداءات متعددة وجهها خبراء عرب وأجانب واغفلتها الفضائيات.
خلاصة
ان بناء ثقافة ديمقراطية هي عملية تتجاوز صعوبتها بكثير اقرار اطر ديمقراطية . فبقرار فوقي تستطيع اية سلطة ان تحدد انتخابات محلية او تشريعية او حتى رئاسية ، لكن مسالة بناء الخيارات التي تجعل الورقة التي تسقط في صندوق الاقتراع ، تعبيرا عن خيار ديمقراطي حقيقي ، هي امر لا ياتي الا نتيجة تشكل مواطن – فرد ، يختار من يمثله على اساس انه يحقق مصلحة المواطن في كل شؤونه الحياتية والفكرية والروحية ( السياسة الداخلية ) ومصلحة الوطن في كل ما يتعلق ببناه وعلائقه المادية والروحية ( السياسة الخارجية ) . هذا التشكل لا ياتي بدوره الا نتيجة مسيرة مشروع تثقيفي توعوي طويل وصعب ، يبني الفرد ك ” انا ” تمارس خياراتها الفكرية في كل ما يتعلق بحياتها بناءا على محاكمة فكرية عاقلة ونقدية وعلى اختيار حر ، وبالتالي بناء نحن مجتمعية تتبلور في دولة القانون والمواطنة . التي تضطلع بمسؤوليتها عن صيانة الحريات العامة ، ومنها حرية التعبير والجدل العام كي يستطيع هذا المواطن تبين جميع الطروحات والاختيار بينها . كما تضطلع بمسؤولياتها في تمكين المواطن من ادوات الاختيار هذه ، وتحريره من ظروف القلق الوجودي الرهيب التي تمنعه من التفكير بعقلانية.
في كل هذه الادوار تقوم وسائل الاتصال بدور مركزي ، وبخاصة منها الوسائل القادرة على بلوغ اكبر شريحة من الناس ، وهنا نجد الفضائيات في المقدمة ، فهي القادرة على بلوغ مجال جيولغوي يطال حتى الاميين ، وهي التي تتمتع بفاعلية مؤثرات تطال اوسع مجال من الحواس ومن المُحرّضات. التي لا تحكم فقط عملية صياغة الرسالة الاعلامية ( (encodingبل وعملية التلقي ( decoding)
لا يقتصر دور هذه المحرضات التي تعني ثقافة ما ، سيكولوجية ما ، ظروفا ما ، على تحديد طريقة تفكيك المشاهد للشيفرات وانما على الكيفية االتي يعيد بها تركيبها( configuration) ، كل على طريقته . ولا تتم اعادة التركيب هذه بروح نقدية الا وفق عوامل مُتجذّرة في واقع المشاهد ، واقع يرتسم في منطقتنا العربية كنتيجة لكمّ من المصاعب التي تواجهها هذه المنطقة منذ قرن : الحروب، الاحتلالات والدكتاتوريات، التي تتحالف كلها لإعاقة التنمية، تحالفا يقع في أساس الاستراتيجية الإعلامية.
واذا كان الخطاب الإعلامي يظلّ أخرس بدون أذن وعين المُشاهد، فان التحدي التاريخي لكليهما( الخطاب والمواطن ) يكمنان في تشكيل تقافة ديمقراطية اجتماعية ومن ثم سياسية . واذا كان الخطاب الاعلامي يبقى مرهونا ، اما للنظم الحاكمة اذا كان قطاعا عماما ، واما لراس المال المعولم الذي ينتمي اغلب افراده الى الاسر الحاكمة – خاصة في حال الضائيات الاخبارية – اذا كان مخصخصا ، فان بإمكان المشاهد أن يبحث في هذا الطّوفان غير المعهود، عما يستجيب لحاجته كمواطن في مجتمع و في وطن ، مصالحهما واضحة ويجب ان تصبح الحرّيات العامة فيهما مُصانة. لان المصلحة الحفقيقية لا تتحقق الا ببناء ثقافة بعيدة عن كل ما يسوقه الاعلام الفضائي . وهذا ما يستحق ان تناضل النخب لاجله ، وان تحاكم الاعلام على التخلف عنه .
لكن تعاقب الأحداث والتمزّقات بقوة وبسرعة لم يسبق لهما مثيل يجعله يغرق في الجدل السياسي البحت والآني وينزلق أكثر فأكثر نحو مرجعيات فئوية في غياب سيادة الدولة والعدالة الإجتماعية مقابل حضورٍ طاغٍ للقلق الوُجودي. نتيجة الانتماء الى بلدان مهددة اما بالاحتلال غير المباشر عبر المصادرة الكاملة للقرار ، اما بالاحتلال المباشر العسكري واما بالزوال الكامل عن الخارطة السياسية وحتى الديموغرافية .
من هنا يبقى على البحث عن بناء ثقافة ديمقراطية ان يتناول موضوعين اخرين: كيف يقارب خطاب المحطات الفضائية الاخبارية موضوع السيادة؟ وهل من الممكن بناء مفهوم مواطنة في غياب هذا المفهوم الحقوقي الأساسي؟ من جهة ثانية، إلى أي حدّ يُصالح هذا الخِطاب بين المُساواة والمصالح؟ أخيرا، في السياق الذي فرض نفسه منذ 1990 وحتى 2003، مرورًا ب11 سبتمبر، هل يترك خطاب صراع الحضارات بالنسبة للخارج وخطاب صراع المذاهب والإثنيات في الداخل، مكانا لمفهوم المواطنة؟
المراجع
[1] DRAGAN Ioan et PELISSIER Nicolas, “les effets socioculturels de l’information et des actualités télévisées » in, la télévision et ses influences, dir, DIDIER Courbet et FOURQUET Marie-pierre, De Boeck, p.99
[2] المصدر السابق
[3] المصدر السابق
[4] المصدر السابق
[5] في استعارة لعنوان رواية لأمين معلوف صادرة عن دار غارسيه وفاسكيل ومنرجمة إلى العربية عام 1998
[6] مؤتمر صحفي مباشر على الجزيرة
[7] الإتجاه المعاكس، سامي النصف ومحمد المُسفر في حلقة حول ” مستقبل العروبة في دول الخليج العربي” ، ارشيف الجزيرة فيديو.
[8] KAUFMANN Daniel, « Médias, gouvernance et developpement: une analyse empirique », in Médias, developpement et éradiction de la pauvreté, éd. Unesco, Paris, 2007, p.16
[9] غرايبة ابراهيم، “الواجب والممكن”، مصدر سابق
[10] القاسم فيصل، الاتجاه المعاكس،” حول الانتقادات الموجهة إلى قناة الجزيرة”، مصدر سابق
[11] HIRST David, »Aljazeera, une chaine libre au Proche Orient, la télévision arabe qui dérange », Le Monde Diplomatique, Août, 2000, pp.9-10
[12] المصدر السابق
[13] KHOURY Rami, the new arab media, Jordan Times, January 2003
[14] الاتجاه المعاكس، “حول الانتقادات الموجهة إلى قناة الجزيرة”، أرشيف الجزيرة، فيديو
[15] المصدر السابق
[16] KHOURY Rami, Jordan Times, op.cit.
[17] المصدر السابق
[18] عزوز سليم، في الإتجاه المعاكس، “الانتقادات الموجهة إلى قناة الجزيرة”، مصدر سابق
[19] أول امرأة سميت قاضية كانت عراقية: صبيحة الشيخ داود في الثلاثينات، اول امراة وزيرة كانت في مصر، اول امراة وزيرة اعلام في الاردن في الثمانينات: ليلى شرف، اول امراة رئيسة مجلس ادارة قطاع اعلامي في مصر.
[20] عبدالكريم الحاج، الفضائيات العربية بين المهنية والوازع القومي، http://www.alarabnews.com/alshaab/GIF/20-09-2002/a43.htm
[21]ناصف عمر، في الشريط الوثائقي “حروب سلمية”، مصدر سابق
HIRST David, « Al Jazeera une chaine arabe libreau Proche Orient, la télévision arabe qui dérange » ,op.cit. [22]
[24]هلال ابراهيم، في حوارات الاعداد للشريط الوثائقي “حروب سلمية”، إعداد وإخراج ربى عطية
Atallah Paul, Théories de la communication,éd.Presse Universitaire Quebec,avril,1989 [25] Voir
[27] Voir La télévision et ses influences, op.cit, les deux chapitres 4 et 14: « Nouveau regard sur les émissions politiques vers un récepteur complexe » Fourquet Marie Pierre, et « Ma persuation par la télévision, éducation versus manipulation » Lazarre Judith
HIRST David, « Al Jazeera, une chaine libre au Proche Orient, la télévision arabe qui dérange », op.cit [28]
Mc LUHAN Marchall, Pour comprendre les medias, Mam, Seuil, 1977, p.30 [29]
BAUTIER Roger et CAZENAVE Elizabeth, “Sources histhoriques et archives de la communication”, in OLIVIER [32] Stéphane, introduction à la recherche en Sic, presse universitaire de Grenoble, octobre 2007,p.120
[34]العريضي غازي في حلقة من برنامج بلا حدود، مع احمد منصور ، 3 يناير 2003، ارشيف الجزيرة
[35]دجاني نبيل في برنامج قضايا الساعة مع احمد كريشان، 15 يناير 2003
[36] تقرير التنمية البشرية لعام 2000
[37] فرجاني نادر ، مخطوطة أرسلها فرجاني إلى الباحثة عبر البريد الالكتروني .
[38] المعاهدة الدولية لحقوق الطفل http://www.droits-enfant.org
[39] تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2005 www.UNDP.org
“L’education est attaquée en Irak” rapport de l’UNESCO, 2010 [40]
ADRIENSEN Dérik, “ la décomposition de l’Etat irakien”, conférence donnée au sein des Nations Unis à Genève, [41]
5 Octobre 2010
الترجمة العربية ، سناء عبد الله، تحت عنوان: ” التعليم في العراق الضحية الاولى للحرب والتمييز العرقي هو النتيجة الابرز ”
[43]المشهد العراقي http://www.aljazeera.net/NR/exeres/5F53320F-9973-42F3-BFE5-568689B7E122.htm
[45]مجرد سؤال ، ارشيف محطة أبو ظبي، فيديو
ZERMATTEN Jean « le droit à l’éducation si simple et si complexe »,onzième séminaire de l’institut international [46] des droits de l’enfant, http://ebookbrowse.com/book-education-2005-pdf-d50125941
[47]تقرير التنمية البشريةwww.UNDP.org 2002- 2003
[48] ZERMATTEN Jean « le droit à l’éducation si simple et si complexe »,onzième séminaire de l’institut international des droits de l’enfant, op.cit
BOUGNOUX Daniel, “ La communication contre l’information” in BALLE Francis , Médias et société, op.cit,p.31 [50]
[51] عبد الغني امين سعيد ، رسالة دكتوراه في جامعة المنصورة ، مصدر سابق
Mc LUHAN Marchall, pour comprendre les medias, op.cit, p.30 [52]
[53] موقع المنار http://www.almanar.com.lb/main.php
Tholoe Joe président de l’association des directeurs de publication africains, in Médias développement et [54] éradiction de la pauvreté, p.36, éd. UNESCO, Paris, 2007
[55]عزوز سليم، في حلقة الاتجاه المعاكس حول الانتقادات الموجهة إلى قناة الجزيرة ، مصدر سابق
[56] AL-SAQAF Walid, « Les populations arabes sont lasses de manque de transparence des régimes au pouvoir » in, Médias, developpement et éradiction de la pauvreté, op.cit, p. 69
Halimi Serje, Les nouveaux chiens de Gardes, éd. Raison d’agir, février 2003, p.65 [59]
[60] فرجاني نادر ، مخطوطة ، مصدر سابق
KAUFMANN Daniel, “Médias gouvernance et développement: une analyse empirique”, op.cit[61]
SEN Amartya, cite par Larry Kilmann, “une presse libre favorise le développement et prévient la famine”, in[62] “Médias, développement et éradiction de la pauvreté”, éd. UNESCO, Paris, 2007, p.58
[63] تقرير التنمية البشرية لعام 2000
[64] فرجاني نادر ، مخطوطة ، مصدر سابق
[65] تقرير التنمية البشرية لعام 2009