العاصمة المعزولة المهددة باللحاق بشقيقتها التاريخية، تتحول اليوم الى محج ومقصد.
دمشق التي كان اعداؤها يرقصون عام 2003 واثقين من ان العرقنة ستطالها سريعا، تحت مظلة الشرق الاوسط الجديد، خرجت من عزلتها دون ان تغادر مواقعها السياسية، حتى ولو انها ابدت بعض المرونة في بعض الملفات، مما افاد هذه المواقع ولم ينتقص منها.
اقدم عاصمة في التاريخ لا يمكن ان تصبح هامشا، قدرها بين اثنين: اما الدمار، الذي عرفته مرارا في تاريخها، واما المركزية، وذاك ما شكلته عبر العصور وان بدرجات مختلفة.
لكن هذا الواقع الجيوبوليتيكي، التاريخي، يجعل المسؤولية الملقاة على عاتق الحكم في دمشق كبيرة، وهي مسؤوليات تتحملها امام التاريخ اولا، وامام الشعب ثانيا.
الماضي القريب كان مشوبا باخطاء كثيرة، ويبدو ان بشار الاسد يعمل بهدوء وروية على ترتيب الامور، تاركا لنا ان نسال: اهو بطء مبالغ فيه؟ ام انه افضل ما يمكن انتهاجه من سرعة في ظل المؤامرة الدولية الكبيرى التي استهدفتنا منذ ولادة المخلوق الشيطاني الذي اسموه النظام العالمي الجديد.
واذا كان هذا المخلوق يبدو الان اقصر عمرا من كل اسلافه من نظم جديدة حكمت الكرة الارضية، فذاك ما يعود لعدة عوامل تتوزع على مدى العالم: من الصين الى روسيا، ومن افغانستان الى غزة. ليظل الدور المركزي فيها هو ذلك الذي لعبه العراق: العراق المطعون من كل الاتجاهات، الممزق المدمى، المحتل المدمر، كان تحت كل ذلك القوة الكامنة، المخزونة منذ اول العصور، والتي، بطريقة او باخرى افشلت المشروع الاميركي، رغم كل عملائه على ارضها. لتاتي بعده القوتان الاخريان: المقاومة اللبنانية، التي سجلت للمرة الاولى انتصارا على اسرائيل في التحرير وانتصارا اكبر على اميركا نفسها في حرب 2006، التي لم تخضها الدولة العبرية الا لحساب العراب الاميركي، واذا كانت نتيجة تلك الحرب لم تؤد مباشرة الى تفكك المعسكر اللبناني الذي اراد التمثل بشبيهه العراقي، فان الفضل في ذلك يعود الى انتصار المقاومة وقوتها التي حمت المعارضة.
واذا كانت الاسباب التي حركت المؤامرة في لبنان عديدة، فمنها ان البعض راح يرى نفسه احمد الجلبي والاخر جلال طالباني والاخر مسعود البرازاني والاخر اياد علاوي، هذا عدا عن جيش مؤلل من الذين تنحدر طموحاتهم تدرجا حتى تصل مجرد بضعة مئات دولار في الشهر. دون ان ننسى ان رواسب احقاد كثيرة تركتها الممارسات السورية الخاطئة في لبنان، شكلت محركا يشبه الى حد كبير محرك بعض الذين غلب حقدهم على صدام حسين، ضميرهم الوطني. في حين تظل الاحقاد الطائفية اشبه بتلك المذهبية والاتنية التي استعملت قنابل تفجير في العراق.
عناصر كثيرة ومهمة لا بد وان ينتبه اليها القيمون على الوضع في سوريا، كي يتم اجتثاث اصولها في النفوس، وذاك ما يتطلب جهدا كبيرا وطويلا. غير ان النظام السوري قادر على انتهاج هذا الخط الاصلاحي الان، اكثر من اي وقت مضى،لانه في موقع القوة، ولا يمكن فهم اي اصلاح بانه تنازل عن ضعف. فالكل يرى الزعماء الاوروبيين وهم يقفون بالصف في مطار دمشق، فيما ينقل اخرهم من الفرنسيين، رغبة هيلاري كلينتون في تعيين سفير في دمشق، وتحججها بالقوانين القديمة التي تعرقل عملها. ومن الواضح انه تشير الى قانون معاقبة سوريا، بحيث يبدو من غريب المفارقات ان تكون الولايات المتحدة هي التي تشكو منه كمعوق لعملها الديبلوماسي لا دمشق.
هذا في حين تتطور العلاقات السورية الروسية، بحيث يقول الخبير الجيوبوليتيكي الفرنسي جاك بارا، مفسرا التقرب الساركوزي من دمشق: لو لم نسرع بالتواجد هناك لما ترك لنا بوتين موطىء قدم.
غير ان نقطة القوة الاساسية التي تمسك بها سوريا اليوم هي خاصية كونها العاصمة العربية الوحيدة التي تملك علاقات استثنائية مع تركيا وايران في ان واحد. مما يعني الكثير في اطار جيوبوليتيكة ما يسمى بالشرق الاوسط، تلك التي كانت عبر التاريخ موزعة بين ثلاثة مراكز: العربي، التركي والفارسي ( حتى عندما كان اسم هذين الاخرين: بيزنطة وبلاد ساسان )، واذا كان العنصر الوحيد الطارىء على هذه الثلاثية هو الكيان الاسرائيلي الغاصب،لارض العرب، فان ائتلاف هؤلاء مع القوتين الاخريين هو الوسيلة الوحيدة لعزل اسرائيل في المنطقة. ستراتيجية لم يفهما احد في العالم العربي وللاسف، اما عن سوء تقدير واما عن عمى مذهبي غبي وحاقد، تحركه اصابع الصهيونية نفسها، ورسلها الغربيون.
القوة تاتي دائما من الداخل: والداخل هو اولا داخل القطر وثانيا داخل الامة وثالثا داخل الحيز الاقليمي. واخيرا في الاطار العالمي، حيث ياتيك هذا الاخير مرغما اذا ما حققت الثلاثية الاولى. معادلة، فهما حكامنا غالبا بالمقلوب، والغريب انهم ما يزالون كذلك رغم كل المصائب التي جلبتها لنا.