قامته بقامة المدينة، والمذيعان يجلسان في ظله. لو راى الصورة مشاهد لا يعرف العربية ولا يعرف الرجل لظن على الفور انه بطل قومي يطل كما تمثال سيمون بوليفار او كما تمثال الحرية في نيويويورك.
ثمة شيء اسمه علم السيميولوجيا لعله الاهم بالنسبة لوسائل الاعلام ونحن نعيش عصر الصورة. الصورة التي اثبت الواقع والدراسات ان دورها في الخطاب الاعلامي بات اهم من الكلمة. هذا العلم لا بد من اخذه بعين الاعتبار بدقة متناهية عند رسم ديكورات واخراج المشاهد التلفزيونية، خاصة نشرات الاخبار وخاصةاكثر عندما تكون النشرة بحجم استثنائي كنشرة محطة الجزيرة.
هذه المحطة باتت فخرا لنا نحن الاعلامين العرب حتى ولو كنا لانعمل فيها، ولذلك نحرص بعمق على اصغر تفصيل فيها. كما انها باتت مصدر التاثير الاول في الراي العام العربي ولذلك يجب ان يكون الحرص بهذا المستوى.
لا يعقل ان يلجا مصصم غرافيك الى تصميم خلفية خبر فلسطين كما راينا. لقد لجا المصمم الى استعمال مفردتين: بنيامين نتياهو والقدس. القدس هي بالمعنى السيميولوجي ايقونة تحمل دلالاتها وتاثيرها في نفس المشاهد عبر كل ما تحمله من دلالات تاريخية ورمزية وعقدية واشكالية في الصراع. وهي بذلك ايقونة استثنائية في دلالاتها وفي اختزاليتها. اما بنيامين نتيناهو فهو شخص عادي، حاكم ككل الحكام وان كان من اسواهم واشدهم اجراما.
بذلك القدس هي ايضا وجود ابدي، كمدينة وكدلالة، وكحاملة لمنظومة قيم، وبنيامين نتنياهو رجل عادي عابر في الوجود.
القدس يجب ان تمثل في وجدان المتلقي الايمان والامل، بمعنى انها – محتلة او غير محتلة، منتصرة او اسيرة – يجب ان تبقى الوجود الاقوى بالمنظور التاريخي والرؤية البعيدة للصراع، والا فلا داعي لهذا الصراع. ومعروف ان تعظيم العدو – خاصة اكثر من حقيقته – هو افضل وسيلة لتقزيم معنويات الناس.
وبالعودة الى الصورة بتشكيلها الفني: ثمة ثلاث كتل: القدس، نتنياهو والمذيعين = الانسان العربي، وبالتحديد الانسان الاعلامي، اي الفاعل المؤثر: الكتلتان الاولييان تقدمهما الصورة متساويتين في الحجم ولكن نتنياهو يتقدم بحكم البعد الذي رسم به بحيث احتل مقدمة الصورة والمدينة خلفه. راس نتياهو يطاول راس جبل المكبر اعلى قمة في المدينة المقدسة وفي ذلك خلخلة بعيدة الدلالة والتاثير للمقاييس حيث تفترض نسبة معينة بين حجم الفرد وحجم المدينة، نسبة قلبت كليا هنا.لصالح الرجل بما يمثل، وعلى حساب المدينة بما تمثل.
ننتقل الى الالوان والاضاءة، فاللون الغالب هو الازرق الذي يعتبر اللون الرمزي لدولة اسرائيل، بل للحركة الصهيونيةبكلها، ولذلك هو لون علم الدولة العبرية الذي شكل تعديلا بسيطا على علم ” البتار ” ( ميليشيا الشبيبة الصهيونية في اوروبا بقيادة بيغن )
اضافة الى ان هذا اللون يبدو في الصورة حادا حيا في ملابس نتياهو وباهتا في تلوين المدينة، وبما ان ملابس المذيع هي في العادة قاتمة غير جاذبة، وقليلا ما ترتدي المذيعة لونا مساويا في قوته ( امس مثلا كانت ليلى الشايب ترتدي الابيض خاصة وهي تجلس في ظل نتياهو.) فان ذلك يعطي فراغا الى جانب الكتل يبرزها اكثر، بل ويبرز الاقوى منها اكثر.
وبحضور الجرافة امام نتنياهو ندرك ان المصمم انما اراد تصوير هول الاستيطان وطغيان نتياهو في الاستيطان في القدس، ولذلك اختار اضافة الى كل ما سبق وقفة معينة لرئيس الوزراء الاسرائيلي تجسد الكثير من القوة والغطرسة واللامبالاة ازاء الاخر: وقفة جانبية،متعالية ويده في جيبه.
غير ان هذا الفهم هو وللاسف سطحي جدا، ومتلقف للانباء دون تمحيص في كيفية نقلها الى المشاهد، وفي دوره هو في صياغة الخطاب الاعلامي. فنشرة الاخبار ليست مجرد انبوب نقل: انها صياغة خطاب،تختلف وسائله بحسب اختلاف الوسيلة الاعلامية. وتتحدد تاثيراته عبر دراسة سيكولوجيا المتلقي، وخلفياته التاريخية والوجدانية، وانتروبولوجيته وسوسيولوجيته وحتى توقيت تلقيه للرسالة.
فهل نتخيل مشاهدا عربيا عائدا من عمل مضن وظروف متعبة طوال النهار بكل ما في حياتنا من تعب واحباطات، يفتح التلفزيون ليرى ما حصل في فلسطين، فيصفعه هذا الحضور الطاغي لنتيناهو متالقا مضيئا قويا منتصرا
انها مسؤولية عن معنويات الناس وعن تعزيز احترامهم لقضيتهم، لان الثبات في النضال لا يتاتى من الياس بل من الايمان. وطالما راهن الاسرائيليون على عملية التيئيس بدءا من جابوتنسكي و” جدار الفولاذ” الذي جاء فيه: ” سيظل هؤلاء الفلسطينيون يقاتلوننا كما يقاتل كل شعب محتل من يحتلونه، الى ان نتمكن من قتل اخر بارقة امل لديهم “