من الحرب العالمية الثانية واوروبا تتوزع بين تيارين سياسيين كبيرين: تيار الاستقلالية الذي يحرص على التحالف مع الولايات المتحدة الاميركية ولكن على اساس الندية لا التبعية، ويصر على ان يغمس يديه وشعره في بحار اخرى غير الاطلسي، وعلى راسها المتوسط وتيار اخر لا يرى في الاطلسة الكاملة مشكلة، بل يعتبر على العكس، ان ارتباطه بالسياسة الاميركية مصدر قوة له.
واذا كانت صناديق الاقتراع، مع كل ما يصاحبها من لعب اللوبيهات والمال قد حملت الى قيادة اوروبا رؤساء وحكومات من اتباع الخط الثاني، فذلك – في عمقه – نتيجة نجاح الولايات المتحدة في احتلال العراق، مما عنى هزيمة المعسكر المعارض. وعليه ذهب شروردر وجاءت ميركل وذهب شيراك وفريقه لياتي ساركوزي.
غير ان جاك شيراك قد عمد في نهاية حكمه الى تحول جوهري لا يتناسب مع تاريخه السياسي القريب والبعيد في العالم العربي، خاصة ازاء سوريا. وعليه جاء التقارب بين الحكم الجديد مع ساركوزي وحكم بشار الاسد ممكنا. خاصة في ضوء حاجة باريس الى العودة الى المنطقة، وحاجة سوريا الى الاندراج في السياق العالمي.
ولا شك ان باريس تطمح من خلال ذلك الى لعب دور في استئناف المفاوضات السورية – الاسرائيلية، خاصة بعد ان بدا ان واشنطن غير قادرة في هذه الفترة على لعب هذا الدور. دون ان يعني ذلك وجود اي خلاف بين العاصمتين الغربيتين، بل مجرد توزيع ادوار. ولم يكن موقفها المتوازن نسبيا من تقرير غولدستون الا محاولة لكسب مصداقية ما لدى العرب.
غير انه من المرجح ان بشار الاسد لا يريد انهاء دور انقرة في هذا الموضوع، خاصة بعد الظروف التي نشات بين اسرائيل وحكومة اردوغان.
واذا كانت زيارة نتنياهو قد سبقت زيارة الرئيس الاسد الى باريس بيوم واحد فانها جاءت بعد زيارته لواشنطن.. واذا كان الاستقبال الذي وجده نتنياهو في واشنطن يعد سابقة في برودته، فانه في فرنسا كان شديد الحرارة.
ففي واشنطن لم يحصل اللقاء الا بصعوبة، وفي اللحظة الاخيرة، ولم يحط بالصحافة ولم يحظ ببيان ختامي. اما في فرنسا فقد خرج الرئيس عن البروتوكول المعروف باستقبال الضيوف في صالون الاليزيه، ليستقبل رئيس الوزراء الاسرائيلي في جناحه الخاص، وليمتد اللقاء الذي كان مقررا لخمس واربعين دقيقة الى ساعتين.
عملية تعويض عن واشنطن؟ ام عملية عرض للعب دور بدل الدور الاميركي، ام تعويضا مسبقا عن استقبال بشار الاسد بعد يومين؟
المهم في ذلك كله ان نتنياهو لم يبد اي استعداد للتنازل في اللقاءين، وذلك ليس امرا جديدا. غير ان الاهم هو ان بشار الاسد استطاع ان يعبر بوضوح عن تشدده وصلابة موقفه، وذاك ايضا ليس بجديد، لكن الجديد انه فعل هذه المرة وهو يقف على ارض صلبة، بحيث جعل اهم الصحف الفرنسية تقول بالحرف: ان سوريا لم تات طالبة هذه المرة.، بل عارضة.
ذاك ان الرئيس السوري ذهب الى الغرب هذه المرة وهو اقوى مما كان عليه في اي وقت منذ توليه الحكم. وما مضمون خطابه امام مؤتمر الاحزاب العربية في دمشق، قبل يوم ن سفره، الا تاكيد على ذلك من جهة، وعملية ذكية في الحرب النفسية الديبلوماسية التي تهدف الى امور كثيرة منها التميهد للزيارة الباريسية.
لقد ذهب وفي جيبه ورقة تركية وورقة ايرانية وتفاهم سعودي – ولو في حده الادنى – يؤكد عليه تشكيل الحكومة اللبنانية، الذي يتحول بدوره الى ورقة، خاصة بعد زيارة الرئيس ميشال سليمان..
والاهم انه يحمل في يده ورقة وضع داخلي سوري لم يعد يعاني من التهديد الذي عاشه بعد احتلال العراق.
كذلك يجمل الاسد ورقة لا تنبع من وضعه هو ووضع حلفائه بل من وضع المعسكر المقابل، الذي يعيش فشله الكبير على المستوى الاميركي في المنطقة،خاصة بعد اعلان واشنطن مرارا عن حاجتها لسوريا في العراق، وعلى مستوى الانظمة والقيادات التي راهنت على اميركا واسرائيل، خاصة بعد شكوى محمود عباس من الياس والاحباط.
من هنا فان التناغم الذي شهدناه حول التركيز على موضوع المقاومة في خطابي الاسد امام مؤتمر الاحزاب العربية، وحسن نصرالله في يوم الشهيد، لم يكن مجرد صدفة ولا حتى مجرد التقاء عفوي في المفاهيم.
ولا شك انه ليس رسالة موجهة الى الزيارة الباريسية فحسب، بل الى اطراف عدة محلية وعربية ودولية، وفي طليعتها اسرائيل. والى اهداف عديدة منها المتعلق بامكانيات الحرب وضرورة ردعها او التهيؤ النفسي لها، كما الحرب النفسية التي تسبقها والموجهة الى العدو..
وعليه تمثل موقف الاسد في القول: لا مانع من التعاون، وافساح الساحة لدور ولكن مع شرق اوسط جديد تقع المقاومة في صلبه. في تعبير لا تخفى دلالته على احد.
موقف لن تستطيع فرنسا القبول به، ولكنها تستطيع اللعب عليه لفترة وتمرير مصالحها من خلاله، وذاك ما تعرفه سوريا لكنها تتركه معلقا لاهداف كثيرة منها اضافة اغراءات جديدة للفريق الاميركي بالحوار مع سوريا.