الى اين؟ ومن اين المدخل؟
هل يمكن ان تحقق الثقافة ما فشلت فيه السياسة؟
هل يمكن لهذه الامة، التي لم يقدم شعب كشعبها هذا الكم من التضحيات منذ بداية العصر الحديث، ان تامل بان تضع الثقافة ارضية اخرى لمستقبل افضل؟
هل بات اصلاح السياسة مستحيلا؟ وهل اضبح الولوج من الباب الثقافي هو الانجع؟ سؤال لا يطرح من باب الهروب من تبعات العمل السياسي، بل من باب ما تبرهنه الوقائع من ان السبب الاساسي في فشل العمل السياسي هو غياب وعي تؤسسه الثقافة.
غير ان الثقافة التي يمكن ان تقوم بهذا الدور هي تلك القائمة بدورها على الوعي، وعلى الاستمرارية والتراكم، مما يؤمن تعميم هذا الوعي، وفتح فضاء الجدل والنقاش والصراع الفكري الحقيقي المؤدي الى بلورة الافضل.
ملاحظة يدفع بها الى الذهن تزايد اعداد المناسبات الثقافية على امتداد العالم العربي دون وجود استمرارية بين موعد واخر، اي دون وجود متابعة يمكن ان تؤمن التنمية الثقافية الحقيقية، ودون وجود فكر نقدي حقيقي يواكب يقيّم ويقوّم. ولا يفهم من ذلك رفض للمواسم الثقافية، بل ان مجرد تسميتها مواسم، في الثقافة العربية، يعني انها ليست مناسبات للطاووسية الفارغة بل معارض للحصاد بعد عملية رعاية طويلة للزرع والانتاج،. وبهذا المعنى الاخير هي فرص ممتازة وضرورية للتلاقي والتفاعل والتشجيع والتفعيل والتطوير. لكن علينا ان نعترف ان الكثير من هذه المناسبات، بات مجرد مناسبات سياحية عابرة يمضي كل بعدها الى شانه، دون ان يحمل معه مسؤولية التهيؤ للموعد القادم، ودون ان تحول النتائج الى فعل حيث يلزم ذلك. ولنعترف ان معظم الفعاليات الثقافية قد تحولت الى مناسبات سياحية ودوائر مغلقة تذكرنا بما كتبه مفكر راح يحلل فشل الديمقراطيين الجزائريين بالقول : ” ان خطبهم تصلح لمنابر السوربون اكثر مما تصرح لمنبر باب الواد “، كما تكرنا بعدالة هي ابعد ما تكون عن العدالة، الا وهي ظلم جمع الغث والثمين في سلة واحدة، وتفوق من يتقن الاستعراض اكثر. في حين ان الفعل الثقافي المطلوب هو عمل مستمر وعمل في صميم الشعب. ترجمته العملية متعددة الوجود بتعدد وسائل الابداع والفكر.
فعل لا يكون ناجعا الا اذا التزم بسلم قيم يعمل على ترسيخها، كل بطريقته ولغته وخطابه وابداعه. قيم ثابتة في الاساسيات وقابلة لكل ابداعات التغيير والتطوير والتحديث التي لاتشترط الا الحقيقية والصدق. وفعل لا يكون ناجعا الا اذا خضع باستمرار لعملية تقييم ونقد ذاتي ضامن للتطوير، ولفرز القمح من الزؤان.
– فعل لا بد له من يجسد وينمي مقاومة كل الامراض التي تعبث بجسد امتنا سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.
– فعل لابد له من ان يحقق التقاطع الضروري بين التجذر في الذات غوصا، نبشا، تمثلا واحياءا بابداع جديد وبين الانفتاح الواعي على المنجز الانساني. هل كان من الصدفة ان تمثل حضارتنا- قبل المسيحية بقرون – استمرار الحياة وابديتها بشكل الصليب المتقاطع عامويا وافقيا؟
– فعل لا بد له ان يركز على عنصر الشباب، مع تجنب القطيعة مع منجزالكبار، انه مرة اخرى التقاطع الضروري بين الخبرة والفعالية من جهة والحداثة والحيوية من جهة.
– فعل لا بد له من ان يعطي المراة حيزها، لا على طريقة الكوتا،( التي لا اراها الا رياضة اصحاب الاحتياجات الخاصة ) وانما اقرارا بالواقع الذي تحتل فيه نساؤنا مواقع جميلة على صعيد العطاء والوعي والابداع. وايمانا بقول جبران : المراة من الامة بمثابة الشعاع من السراج، ولا يكون الشعاع ضعيفا الا متى كان الزيت شحيحا ”
– فعل لا بد له من ترسيخ تقييم الجوهري وتسفيه الرديء، لاننا نجتاز – ومنذ التسعينات تحديدا – موجة تعمل على تدمير الثقافة العربية، عبر دعم سيادة التافه والرداءة، على حساب كل ما هو جوهري وحقيقي وابداعي اصيل ( اصيل في تقليديته او في حداثته )
– فعل لا بد له من الالتفات الى عنصر الطفل الذي نهمله بصورة خطيرة. وابرز مثال غياب البرامج المحلية المخصصة له على شاشاتنا وفي مطبوعاتنا. هل نتخيل اي شاب سيكونه طفل اليوم الذي يتربى على ماكدونالدز وباربي وداوود يحب جاره محمد والبرامج المستوردة ان لم يكن المسلسلات التركية المدبلجة، الى اخر السبحة…؟ اين برامج الاطفال والناشئة في فضائياتنا وعلى مسارحنا واذاعاتنا؟
– فعل لا يتحقق في كل الاحوال الا بامتلاك افضل القدرات المهنية، لان افضل المضامين تذهب هدرا اذا لم تتلبس التعبير الابداعي الاستثناءي والمجدد. اما تاثيرها فيظل على طريقة ( الرقص في العتمة ) اذا لم تستطع اجتذاب المتلقي، وما يجتذب المتلقي، قبل المضمون، هو فن تقديمه. علما بان هذا المبدا الاخير يشكل خطورة ان الاستجابة المطلقة لنداء المتلقي عبر الاستسهال، وعبر العزف على العواطف وردات الفعل فحسب، بل وربما على الحساسيات المرضية،هي استجابة تفقد العمل الثقافي المبدع من قدرته التاسيسية، الاصلاحية، والتطويرية على مستوى الفكر وعلى مستوى الابداع.
ملاحظات لا ادعي انها تشكل مانيفستو العمل الثقافي ولكنها نتيجة ملاحظات كنت ادونها على دفتري وانا اشارك في بعض الفعاليات الثقافية العربية.